اللهم صل على محمد وال محمد --- aboutaqua@yahoo.it --- اللهم صل على محمد وال محمد

حب النفس والدنیا

قال الله تعالی:{ إعلموا أنما الحیاة الدنیا لعب ولهو وزینة وتفاخر بینکم وتکاثر في الأموال والأولاد کمثل غیث أعجب الکفار نباته ثم یهیج فتراه مصفرا ثم یکون حطاما وفي الآخرة عذاب شدید ومغفرة من الله ورضوان وما الحیاة الدینا إلا متاع الغرور} الحدید ٢٠
قال رسول الله(ص):« إنه ما سكن حب الدنيا قلب عبد، إلا إلتاط فيها بثلاث: شغل لا ينفد عناؤه ، وفقر لا يدرك غناه ، وأمل لا ينال منتهاه . ألا إنّ الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان: فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل رزقه ، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه ، ألا وإنّ السعيد من إختار باقية يدوم نعيمها على فانية لا ينفد عذابها ، وقدّم لما يقدم عليه مما هو في يديه، قبل أن يخلفه لمن يسعد بإنفاقه ، وقد شقي هو بجمعه ».
قال الإمام الصادق(ع):« من أصبح وأمسی والدنیا أکبر همه، جعل الله الفقر بین عینیه وشتت أمره ، ولم ینل من الدنیا إلا ما قسم له ، ومن أصبح وأمسی والآخرة أکبر همه، جعل الله الغنی في قلبه ، وجمع له أمره ».
قال أمیر المؤمنین(ع):« إنما أخاف علیکم إثنتین: إتباع الهوی وطول الأمل، أمّا إتباع الهوی فإنه یصدّ عن الحق ، وأمّا طول الأمل فإنه ینسي الآخرة ».
الهوی هو: حب الشيء واشتهاءه.
قال الإمام الباقر(ع):« مثل الحریص علی الدنیا ، مثل دودة القز کلما ازدادت من القز علی نفسها لفا ، کان أبعد لها من الخروج حتی تموت غما ».
إنّ الخطوة الأولی نحو الله سبحانه وتعالی، تتمثل في الإنتصارعلی (حب النفس) و(حب الدنیا) وهو المقیاس الحقیقي في السفر إلی الله.
فإذا أخرج الإنسان من قلبه ( حب النفس والدنیا ) بالریاضات النفسیة ، فبالمقدار الذي یفرغ القلب من حب النفس وحب الدنیا، یمتلأ حبا لله عز إسمه !
جاء في حدیث قدسي:« وعزتي وجلالي وعظمتي وکبریائي ونوري وعلوي وارتفاع مکاني ، لایؤثر عبد هواه علی هواي ، إلا شتتّ علیه أمره ولبّست علیه دنیاه وشغلت قلبه بها ولم أوته منها إلا ما قدّرت له. وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مکاني ، لا یؤثر عبد هواي علی هواه ، إلا استحفظته ملائکتي وکلفت السماوات والأرضین رزقه , وکنت له من وراء تجارة کل تاجر وأتته الدنیا وهي راغمة ».
قال النبي(ص):« من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شئ، وألزم الله قلبه أربع خصال: هما لا ينقطع عنه أبدا، وشغلا لا يتفرغ منه أبدا، وفقرا لا ينال غناه أبدا، وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا ».
قال رجل لأبي ذر(رض):« یا أبا ذر، ما لنا نکره الموت؟ قال: لأنکم عمرتم الدنیا وأخربتم الآخرة فتکرهون أن تنقلوا من عمران إلی خراب. فقال له: فکیف تری قدومنا علی الله؟ قال: أما المحسن منکم فکالغائب یقدم علی أهله، وأما المسيء منکم فکالآبق یُرَدّ علی مولاه. قال: فکیف تری حالنا عند الله؟ قال: أعرضوا أعمالکم علی الکتاب، إنّ الله یقول:" إنّ الأبرار لفي نعیم وإنّ الفجار لفي جحیم". فقال الرجل: فأین رحمة الله؟ قال: رحمة الله قریب من المحسنین ».
قال الصادق(ع):« مثل الدنیا کمثل ماء البحر، کلما شرب منه العطشان، إزداد عطشا حتی یقتله ».
قال لقمان لإبنه:« يا بني! إنّ الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله ، لعلك ناج وما أراك ناجيا ».
وقال أحد الحكماء :« لا تخرج نفس إبن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: أنه لم يشبع مما جمع ، ولم يدرك ما أمل ، ولم يحسن الزاد لما قدم عليه ».
قال أبي عبد الله(ع):« ما ذئبان ضاریان في غنم قد فارقها رُعاؤها، أحدهما في أولها والآخر في آخرها فأفسدا فیها، من حب المال والشرف في دین المسلم ».
إن حب الدنیا والنفس وحب المال والجاه والولد، واتباع الشهوات وارتکاب السیئات، والإنصیاع وراء عدو الله وهوی النفس والتوجه نحو شجرة الطبیعة الخبیثة، هو ستار وحجاب من أظخم وأغلظ الحجب التي تحجب الإنسان عن الوصول إلی الله سبحانه!
جاء في حدیث قدسي:« يا داود، إنك تزعم أنك تحبني، فإن كنت تحبني، فأخرج حب الدنيا من قلبك ، فإنّ حبي وحبها لا يجتمعان في قلب واحد ».
ولذلك، فقد زوى الله تعالى الدنيا على نبينا(ص)، فكان يطوي أياما، وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع ..!
قال الإمام الصادق(ع):«.. ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله تعالى، من النفس والهوى، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح وآلة، مثل الإفتقار إلى الله، والخشوع والجوع والظمأ بالنهار والسهر بالليل».
کتب رجل إلی أبي ذر(رض):« یا أبا ذر، أطرفني بشيء من العلم. فکتب إلیه: إنّ العلم کثیر، ولکن إن قدرت أن لا تسيء إلی من تحبه فآفعل. فقال الرجل: وهل رأیت أحدا یسيء إلی من یحبه ؟ فقال له: نعم، نفسک أحب الأنفس إلیک، فإذا أنت عصیت الله ، فقد أسأت إلیها ».
قال سبحانه وتعالی:{ وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ، أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقیه کمن متعناه متاع الحیاة الدنیا ثم هو یوم القیامة من المحضرین} القصص ٦١
قال الإمام علي(ع):« إنّ الدنیا والآخرة عدوان متفاوتان وسبیلان مختلفان ، فمن أحب الدنیا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها. وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بینهما، کلما قرب من واحد بعـُـد من الآخر، وهما بعـدُ ضرّتان ».
قال النبي(ص):« لكل أمة عجل ، وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم». وقال أیظا(ص):« الدنیا مزرعة الاخرة » !
قال أمير المؤمنين(ع):« إنما الدنیا جیفة والمتوافدون علیها أشباه الکلاب ».
شبه بعض الحكماء حال الإنسان واغتراره بالدنيا، وغفلته عن الموت وما بعده من الأهوال، وآنهماكه في اللذات العاجلة الفانية الممتزجة بالكدورات: بشخص مدلى في بئر، مشدود وسطه بحبل، وفي أسفل ذلك البئر ثعبان عظيم متوجه إليه، منتظر سقوطه، فاتح فاه لإلتقامه، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيض وأسود، لا يزالان يقرضان ذلك الحبل شيئا فشيئا، ولا يفتران عن قرضه آنا من الآنات، وذلك الشخص، مع أنه يرى ذلك الثعبان ويشاهد إنقراض الحبل آنا فآنا، قد أقبل على قليل عسل قد لطخ به جدار ذلك البئر وامتزج بترابه واجتمعت عليه زنابير كثيرة ، وهو مشغول بلطعه منهمك فيه ، ملتذ بما أصاب منه مخاصم لتلك الزنابير عليه، قد صرف باله بأجمعه إلى ذلك، غير ملتفت إلى ما فوقه وإلى ما تحته! فالبئر هو الدنيا، والحبل هو العمر، والثعبان الفاتح فاه هو الموت، والجرذان الليل والنهار القارضان للعمر، والعسل المختلطة بالتراب هو لذات الدنيا الممتزجة بالكدورات والآلام، والزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها.. فاعتبر يا مسكين !!
قال رسول الله(ص):« لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة ماء ».
وقال أيظا(ص):« الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
ومر(ص) على مزبلة ، فوقف عليها وقال:« هلموا إلى الدنيا »، وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة وعظاما قد نخرت، فقال:« هذه الدنيا » !
قيل للإمام علي: صف لنا الدنيا، فقال(ع):« وما أصف لك من دار من صح فيها سقم ، ومن أمن فيها ندم ، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب ».
قال الإمام السجاد(ع):« إنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ».
من مفاسد حب الدنیا، أنه یقوي جانب الطبیعة في الإنسان بحیث یجعلها تعصي الروح وتتمرد علیها، بینما من أسرار العبادات والطاعات ، أنه یقوي الجانب الروحي والتوجه إلی عالم الملکوت.. عالم الطهر والصفاء !
روي أنّ عيسى(عليه السلام) كوشف بالدنيا ، فرآها في صورة عجوز شمطاء هتماء عليها من كل زينة ، فقال لها:« كم تزوجتي؟ قالت: لا أحصيهم ، قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك ؟ قالت: بل كلهم قتلت ، فقال عيسى(ع): بؤسا لأزواجك الباقين ، كيف لا يعتبرون بالماضين ؟! كيف تهلكينهم واحدا واحدا ، ولا يكونون منك على حذر» ؟!
قال الله تعالی:{ أیحسبون أنما نمدهم به من مال وبنین نسارع لهم في الخیرات بل لا یشعرون } المؤمنون ٥٦
وقال عز من قائل:{ فلما نسوا ما ذکـّـروا به فتحنا علیهم أبواب کل شيء حتی إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } الأنعام ٤٤
صدق الله العليّ العظيم وصلى الله على رسوله وآله الطيبين الطاهرين.

الخوف والرجاء

قال الله تعالی:{ قل یا عبادي الذین أسرفوا علی أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله یغفر الذنوب جمیعا إنه هو الغفورالرحیم } الزمر٥٣
قال رسول الله(ص):« من خاف الله أخاف الله منه كل شئ ، ومن لم يخف الله ، أخافه الله من كل شئ ».
قال الإمام الصادق(ع):« خف الله کأنک تراه ، وإن کنت لا تراه فإنه یراک ، وإن کـنت تری أنه لا یراک فقـد کفرت ، وإن کنت تعلم أنه یراک ثم بارزته بالمعصیة ، فقد جعلته أهون الناظـرین إلیک ».
إنّ الخوف والرجاء محمودان، لكونهما باعثين على العمل ودوائین يداوى بهما أمراض القلوب، ففضل كل منها إنما هو بحسب ما يترتب عليه من فائدة العمل ومعالجة المرض.
وهذا يختلف باختلاف الأشخاص: فمن كان تأثير الخوف في بعثه على العمل أكثر من تأثير الرجاء فيه، فالخوف له أصلح من الرجاء، ومن كان بالعكس فبالعكس .
قال أمیر المؤمنین(ع):« أما والله لقد عهدت أقواما على عهد خليلي رسول الله(ص)، وإنهم ليصبحون ويمسون شعثا غبرا خمصا، بين أعينهم كركب المعزی، يبيتون لربهم سجدا وقياما يراوحون بين أقدامهم وجباههم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم من النار، والله لقد رأيتهم مع هذا وهم خائفون مشفقون.. وكأن زفير النار في آذانهم، إذا ذكر الله عندهم مادوا كما تميد الشجر كأنما القوم باتوا غافلين ».
قال النبي(ص):« قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ».
روي عن أبي ذر(رحمه الله)، أنه بكى من خشية الله حتى إشتكى بصره، فقيل له: لو دعوت الله يشفي بصرك ؟! فقال:« إني عن ذلك مشغول، وما هو أكبر همي. قالوا: وما شغلك عنه ؟! قال: العظيمتان، الجنة والنار».
قال الصادق(ع): المؤمن بین مخافتین: ذنب قد مضی لا یدري ما صنع الله فیه ، وعمر قد بقي لا یدري ما یکتسب فیه من المهالک، فهو لا یصبح إلا خائفا ولا یصلحه إلا الخوف ».
الخوف درجات:
خوف العامة: الخوف من العقاب والعذاب والحرمان من الثواب। وهذا الخوف وهذه العبادة لیست جیدة ، إذ هي عبادة العبید والأجراء .

خوف الخاصة: الخوف من العتاب. لتعلقهم وطلبهم للذات المعنویة وقرب المنزلة والمقام.. وهذا الخوف وهذه العبادة لیست خالصة لله أیظا.
{ ألا لله الدین الخالص }.
خوف أخصّ الخواص: الخوف من الإحتجاب. هم لا یتوجهون إلی العطیة ، فالتـّوق إلی الحضور ولذته قطعهم عن الدارین، وبقایا النفسانیة والأنانیة موجودة ویتوقون أن یحصل لهم المشاهدة والحضور.. فلا یمکن أن ننسب إلیهم محبة الله والخلوص الحقیقي .
خوف الأولیاء: وهم طاهرون مطهرون من صبغة الإنیة والأنانیة ، ومصبوغون بصبغة الله.
{ ومن أحسن من الله صبغة }.
قال الله تعالی:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} الحشــر٢١
قال رسول الله(ص):« سبعة يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله:.. ورجل ذكر الله عز وجل خاليا ، ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل ».
قال الإمام الصادق(ع):« ما من شئ إلا وله كيل أو وزن إلا الدموع، فإنّ القطرة تطفئ بحارا من نار، وإذا إغرورقت العين بمائها، لا يرهق وجهه قتر ولا ذلة ، فإذا فاضت، حرمه الله على النار، ولو أن باكيا بكى في أمة ، لرحموا ».
قال النبي( ص):« كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين ، عين بكت من خشية الله ، وعين غضت عن محارم الله ، وعين باتت ساهرة في سبيل الله ».
وقال أیظا(ص) في وصیته لعلي(ع):« يا علي، أربع خصال من الشقاء: جمود العين ، وقساوة القلب ، وبعد الأمل ، وحب البقاء ».
إلاهي، حق لمن عرفک أن لا ینقطع رجاءه منک !!
عش ـ یا أبوتقوی ـ بین الخوف والرجاء کأنک بین الجنة والنار، وانظر إلی نفسک بأنـّک في منتهی التقصیر، والحق تعالی في منتهی الجلال والعظمة !
جاء في حديث قدسي:« يا عيسى، هب لي من عينيك الدموع ومن قلبك الخشوع، واكحل عينيك بميل الحزن إذا ضحك البطالون، وقم على قبور الأموات فنادهم بالصوت الرفيع لعلك تأخذ موعظتك منهم، وقل إني لاحق بهم في اللاحقين ».
قال الإمام الصادق(ع):« إنّ الرجل ليكون بينه وبين الجنة أكثر مما بين الثرى إلى العرش لكثرة ذنوبه ، فما هو إلا أن يبكي من خشية الله عز وجل ندما عليها ، حتى يصير بينه وبينها أقرب من جفنه إلى مقلته ».
قال رسول الله(ص):« إذا أحب الله تعالى عبدا ، نصب في قلبه نائحة من الحزن ، فإنّ الله تعالى يحب كل قلب حزين، وإنه لا يدخل النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع، وإنه لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مؤمن أبدا، وإذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا من الضحك، وإنّ الضحك يميت القلب، والله لا يحب الفرحين ».
ومر الإمام الحسن(ع) بشاب يضحك فقال:« هل مررت على الصراط ؟ قال: لا، قال: وهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك » ؟ قیل: فما روي هذا الضاحك بعد ضاحكا.
إنّ مما یبعث علی تقویة الخوف من الحق تعالی ، هو التفکر في العذاب والعقاب وشدة أهوال الموت، وظلمة القبر ووحدته وعذابه، والصراط والمیزان والوقوف للحساب..
فيصور العبد في نفسه، جهنم ودركها ومقامها وأهوالها وأنواع العذاب فيها، وقبح صورة الزبانية، وأنه كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وإذا رأوها من مكان بعيد سمعوا لها تغيضا وزفيرا..
وإذا أراد أن ينظر إلى الرجاء، فلينظر إلى الجنة ونعيمها، وما أعد الله تعالى فيها من الملك الدائم والنعيم والحور واللذات.. الخ
جاء في حديث قدسي:«.. ألا فلا یتکل العاملون علی أعمالهم وإن حسنت، ولا ییأس المذنبون من مغفرتي لذنوبهم وإن کثرت، ولکن برحمتي فلیثـقوا ولفضلي فلیرجوا، وإلی حسن نظري فلیطمئنوا، وذلک أني أدبـّر عبادي بما یصلحهم، وأنا بهم لطیف خبیر».
ومن دعاء الإمام السجاد(ع):« أدعوک راهبا راغبا راجیا خائفا، إذا رأیت مولاي ذنوبي فزعت، وإذا رأیت کرمک طمعت، فإن عفوت فخیر راحم، وإن عذبت فغیر ظالم ».
علیک یا أبوتقوی، بالحزن الدائم: إمّا من خوف العذاب إن کنت من الصالحین، وإمّا من شدة الشوق إن کنت من المحبین !
إلاهي بکت للخوف منک عصابة..........وما کل من یبکي لدیک له ذنب
ولکنهم للقرب منک تراهـُـــــــــمُ..........مدامعهم تجري فیا حبذا القـرب
سئل الصادق(ع) عما کان في وصیة لقمان، فقال:« کان فیها الأعاجیب، وکان أعجب ما کان فیها أن قال لإبنه: خف الله عز وجل خیفة لو جئته ببرّ الثقلین لعذبک، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلین لرحمک. ثم قال(ع): کان أبي یقول: أنه لیس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خیفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم یزد علی هذا، ولو وزن هذا لم یزد علی هذا ».
ورأی یحیی(ع) یوما النبي عیسی(ع) یضحک فعاتبه قائلا:« أتأمن مکر الله؟ قال عیسی(ع): أأنت آیس من رحمة الله وفضله ؟ فأوحی الله إلیهما: من کان یحسن الظن بي أکثر، فهو محبوب عندي أکثر».
قال سبحانه وتعالی:{ ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } الحجــر٥٦
إنّ مبدأ القنوط من الرحمة ، هو سوء الظن بالذات المقدسة.
ومبدأ حصول الرجاء ، هو حسن الظن بالله تعالی.
علی المؤمن أن یعوّد نفسه علی حسن ظنه بربه في کل أموره، والله عند حسن ظن عبده به.
قال الصادق(ع):« أرج الله رجاء لا يجرؤك على معصيته ، وخف الله خوفا لا يؤيسك من رحمته ».
قال رسول الله(ص):« ما يقطر في الأرض قطرة ، أحب إلى الله من قطرة دمع في سواد الليل من خشيته ، لا يراه أحد إلا الله عز وجل ».
قال الله تعالی:{ ولا تیأسوا من روح الله إنه لا ییأس من روح الله إلا القوم الکافرون } یوسف ٨٧
صدق الله العلي العظيم والحمد لله رب العالمین.

الـتــــــــوبـــة

قال الله تعالی:{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } الأنعام ٥٤
قال رسول الله(ص):« أتدرون من التائب ؟ فقالوا: اللهم لا، قال: إذا تاب العبد ولم يرض الخصماء فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير مجلسه وطعامه فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير رفقاءه فليس بتائب، ومن تاب ولم يزد في العبادة فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير لباسه فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير فراشه ووسادته فليس بتائب، ومن تاب ولم يفتح قلبه ولم يوسع كفه فليس بتائب، ومن تاب ولم يقصر أمله ولم يحفظ لسانه فليس بتائب، ومن تاب ولم يقدم فضل قوته من يديه فليس بتائب، وإذا استقام على هذه الخصال فذاك التائب ».
قال الإمام الصادق(ع):« ما من عبد إلا وفي قلبه نقطة بیضاء ، فإذا أذنب ذنبا خرج في النقطة نقطة سوداء ، فإن تاب ذهب ذلک السواد، وإن تمادی في الذنوب زاد ذلک السواد حتی یغطي البیاض، فإذا تغطی البیاض لم یرجع صاحبه إلی خیر أبدا ».
إنّ التوبة هي القدم الأولی في طریق السالک إلی الله ، والتوبة علی أربعة معاني: أحدها الندم على الماضي من قول أو فعل، والثاني ترك المعاصي في الحال، والثالث العزم على تركها في الإستقبال، والرابع تدارک ما أمکن تدارکه.
علیک ـ یا أبوتقوی ـ أن تحرق قلبک في نار الندامة ، حتی تحترق مع الندامة جمیع الذنوب والمعاصي وصداها !
قال أمیر المؤمنین(ع)، حين قال رجل بحضرته:" أستغفر الله "، قال:« ثکلتک أمّک أتدري ما الإستغفار؟ إنّ الإستغفار درجة العلیین، وهو إسم واقع علی ستة معان: أولها الندم علی ما مضی. الثاني العزم علی ترک العود إلیه أبدا. الثالث أن تؤدي إلی المخلوقین حقوقهم حتی تلقی الله عز وجل أملس لیس علیک تبعة. الرابع أن تعمد إلی کل فریضة علیک ضیعتها فتؤدي حقها. والخامس أن تعمد إلی اللحم الذي نبت علی السحت، فتذیبه بالأحزان حتی تـلصق الجلد بالعظم وینشأ بینهما لحم جدید. والسادس أن تذیق الجسم ألم الطاعة کما أذقته حلاوة المعصیة. فعند ذلک تقول أستغفر الله ».
قال الإمام الباقر(ع):« الذنوب كلها شديدة ، وأشدها ما نبت عليه اللحم والدم ».
لذلک قیل: علیک أن تذیب اللحم الذي نبت من حرام، لأنه فاسد بنفسه ومفسد للـحم السلیم أیظا !
یجب أن تندم علی تلک المعاصي والذنوب، وتعزم علی عدم العودة إلیها نهائیا، ولا تنسی بأنک قد خنت الصداقة (مع الله).
نعم ! إنه فرق شاسع بین صدیق یکون مخلصا معک طول العمر.. وآخر یخونک ثم یعتذر عن خطئه وتقصیره.. !
فما بالک لو عاد للإعتذار ثانیة وثالثة.. یا للحیاء !!
قال سبحانه وتعالى:{ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسی ربکم أن یکفر عنکم سیئاتکم } التحریم ٨
ومعنى التوبة النصوح: هو التوبة الخالصة لله والخالية من شوائب الأغراض، من مال أو جاه أو خوف.. إنّ الندم من الذنوب خوفا من النارأو طمعا في الجنة.. لیست توبة صحیحة !
قال الصادق(ع):« إذا تاب العبد توبة نصوحا، أحبّه الله فستر علیه في الدنیا والآخرة. فسئل: وکیف یستر علیه؟ قال: ینسي ملکیه ما کتبا علیه من الذنوب، ثم یوحي إلی جوارحه: أکتمي علیه ذنوبه، ویوحي إلی بقاع الأرض: أکتمي ما کان یعمل علیک من الذنوب، فیلقی الله حین یلقاه ولیس شيء یشهد علیه بشيء من الذنوب ».
حذارـ یا أبوتقوی ـ من التسویف في التوبة، فإذا ما وقعت ـ لا سمح الله ـ في معصیة، وجب علیک المعالجة بشکل عاجل. مثل مریض لسعته حیة.. ماذا کنت تفعل له ؟ فإنک ستحمله مباشرة إلی المستشفی..
لأن إصلاح الفساد القلیل حینها، یتم بسرعة وبکیفیة أحسن !
قال الله تعالى:{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } آل عمران ١٣٥
إنّ من ترک المبادرة إلی التوبة بالتسویف، کان بین خطرین عظیمین: أحدهما أن تتراکم الظلمة علی قلبه من المعاصي حتى يصير دينا وطبعا فلا يقبل المحو، إذ كل شهوة ومعصية تصدر من الإنسان، ترتفع منها ظلمة إلى قلبه. فإذا تراكمت علیه ظلمة الشهوات والمعاصي، صارت رينا، كما قال تعالى:{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }.
والخطرالثاني, هو الخوف من أن يعالجه المرض أو الموت فلا يجد مهلة للتوبة.
لذا لا بد من الإسراع بالتوبة والسعي إلی محو آثار تلک المعاصي التي إنطبعت في جوهر النفس بنور الطاعات !
قال المصطفى(ص):« التائب إذا لم يستبن عليه أثر التوبة فليس بتائب، يرضي الخصماء، ويعيد الصلوات، ويتواضع بين الخلق، ويتقي نفسه عن الشهوات، ويهزل رقبته بصيام النهار، ويصفر لونه بقيام الليل، ويخمص بطنه بقلة الأكل، ويقوس ظهره من مخافة النار، ويذيب عظامه شوقا إلى الجنة، ويرق قلبه من هول ملك الموت، ويجفف جلده على بدنه بتفكر الآخرة، فهذا أثر التوبة، وإذا رأيتم العبد على هذه الصفة ، فهو تائب ناصح لنفسه ».
إنا نجد بعض الأمراض المستحکمة في الإنسان، عندما یتناول المریض شیئا من الدواء، فإنه سیستعید صحته نسبیا ولکن بقایا المرض وجذورها ما زالت کامنة في بدنه، فإن طرأ علیه عارض غیر ملائم، عاوده المرض مجددا .
ومثل هذا الإنسان لا یُـطمئن إلی صحة مزاجه ، فینبغي علیه أن یداوم علی تناول الأدویة والمسهلات والمنضجات.. حتی یقضي علی آثار المرض تماما .
سأل نبي من بني إسرائیل، من الله، أن یقبل توبة عبد کان قد قضی عمرا في الجدّ والإجتهاد في العبادة ، فجاءه الخطاب:" وعزتي لو أنّ أهل السماوات والأرض تشفعوا له، ما قبلت شفاعتهم. کیف وما زال في قلبه حلاوة الذنب الذي تاب منه " ؟!
قال الله سبحانه:{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } النساء ١٨
إعلم ـ یا أبوتقوی ـ أنّ من شروط التوبة إلى الله ، هو الخروج إلى المظلومين من حقوقهم بأدائها إليهم أو باستحلالهم منها عن طيب نفس.. فعلیک أن تجیل الفکر من حین البلوغ ـ بل من قبل البلوغ ـ وتتذکر أحوالک في سالف الزمان فتنظر ماذا فعلت ؟!
فتقضي ما ترکت من الطاعات وتأتي بما في ذمتک من الکفارات وترد مظالم الناس، قبل أن يحكم أحكم الحاكمين وأعدل العادلين في محكمة القيامة ، فيقتص من كل ظالم بأخذ حسناته ووضعها في موازين أرباب المظالم ، فإن لم تف بها حسناته حمل من سيئات أرباب المظالم ، فيهلك المسكين بسيئات غيره .
قال الإمام الباقر(ع):« الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله وظلم لا يغفره الله وظلم لا يدعه الله . فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك، وأما الظلم الذي يغفره ظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد ».
قال رسول الله(ص):« العبد إذا ردّ درهما إلى الخصماء، أكرمه الله كرامة سبعين شهيدا. فإنّ درهما يرده العبد إلى الخصماء خير له من صيام النهار وقيام الليل، ومن ردّ درهما ناداه ملك من تحت العرش: إستأنف العمل، فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك ».
قال علي(عليه السلام):« ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش ثم يفضح نفسه على رؤس الملأ، أفلا تاب في بيته، فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله ، أفضل من إقامتي عليه الحد ».
إعلم أنّ الله یقبل التوبة الصحیحة، التوبة الصادقة النصوح، بشرط أن تغسل بدموع عیونک أدران المعاصي من القلب بعد أن تؤجج فیه نار الندم !
فإذا علمت ذلک، وجب علیک الإنصراف فورا عن طریق البعد للوصول إلی القرب.. لأنّ متناول السم ـ کما قلنا ـ إذا ابتغی صحة بدنه، وجب علیه فورا البحث عن وسیلة لإخراج السم من بدنه، ولو تهاون أو تساهل ، لهلک !
کذلک في سموم المعاصي، فلو تهاون في التوبة فلعل الموت یفاجأه دفعة فيغلق عليه باب التوبة ، فيغرغر بروحه ، وتتردد أنفاسه في شراسيفه، ويُـجرّع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر، فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأهوال ،
وینتهي المسکین إلی نار جهنم وبئس المصیر!
قال الله تعالی:{ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ الله يتوب عليه إنّ الله غفور رحيم } المائدة ٣٩
قال النبي(ص):« من مات غير تائب ، زفرت جهنم في وجهه ثلاث زفرات: فأولها لا تبقى دمعة إلا جرت من عينيه ، والزفرة الثانية لا يبقى دم إلا خرج من منخريه ، والزفرة الثالثة لا يبقى قيح إلا خرج من فمه ، فرحم الله من تاب ثم أرضى الخصماء ، فمن فعل فأنا كفيله بالجنة ».
من المستحسن في التوبة أن یأتي بطاعة هي من جنس المعصیة ، مثاله أنّ السفر للمعصیة یجبر بسفر طاعة، أو إذا سهرت لیلة في المعصیة ، فتدارکها بلیلة في الطاعة.. وهکذا.
وأن تصلي عقب الذنب ركعتين، ثم تستغفر الله تعالى بعدهما سبعين مرة ، وتقول: " سبحان الله والحمد لله ولا إلاه إلا الله والله أكبر" مائة مرة ، ثم تتصدق بصدقة ، ثم تصوم يوما..
یجب أن تشدد علی نفسک !
سئل أمير المؤمنين(ع) عن دواء القلوب، فقال:« علیک بورق الفقر، وعروق الصبر، وهلیلج الکتمان، وبلیلج الرضا، وغارقون الفکر، وسقمونیا الأحزان، واشربه بماء الأجفان، وأغله في طنجیر القلق، ودعه تحت نیران الفراق، ثم صفـّه بمنخل الأرق، واشربه علی الحرق، فذلک دواک وشفاک یا علیل ».
ومن دعاء الإمام السجاد(ع):« اللهم فكما أمرت بالتوبة وضمنت القبول، وحثثت على الدعاء، ووعدت الإجابة، فصل على محمد وآله، واقبل توبتي، ولا ترجعني مرجع الخيبة من رحمتك، إنك أنت التواب على المذنبين، والرحيم للخاطئين المنيبين.. »
قال سبحانه وتعالی:{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون } الشورى ٢٥
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظیم.

الـعــــــــــــلم

قال الله تعالی:{ شهد الله أنه لا إلاه إلا هو والملائکة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } آل عمران ١٨
قال رسول الله(ص):« من سلک طریقا یطلب فیه علما ، سلک الله به طریقا إلی الجنة ، وإنّ الملائکة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به. وإنه لیستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتی الحوت في البحر. وفضل العالم علی العابد ، کفضل القمرعلی سائر النجوم لیلة البدر. وإنّ العلماء ورثة الأنـبیاء . وإنّ الأنبیاء لم یورثـوا دینارا ولا درهما ، ولکن ورثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر».
إنّ طالب العلم ـ هذا الملکيّ الذي تحول إلی وجود ملکوتي ـ إذا انفتحت عین بصیرته الملکوتیة، رأی بأنّه یطوي المسافات بفضل تأییداتهم وأنه مستقر علی أجنحتهم !
العلم ثلاث:
علم یقوي العقل والجانب الروحاني: وهوالعلم بالذات المقدسة والملائکة والوحي والآخرة والجنة والنار والحساب..الخ
علم یرتبط بترویض القلب وتربیته: وهو العلم بمحاسن الأخلاق وبکیفیة تحصیلها، کالصبر والحلم والحیاء والکرم والعفة.. والعلم بمساويء الأخلاق وبکیفیة التنزه عنها، کالحسد والغیبة والکذب والرياء..
علم یرتبط بتربیة الظاهر وترویضه: وهو علم الفقه ومبادئه وآداب المعاشرة وسیاسة البلاد والحدود والتعزیرات..الخ وبصورة مختصرة ، ممکن تقسیم العلم إلی ثلاث أقسام: علم الآخرة ، وعلم البرزخ ، وعلم الدنیا .
قال الله سبحانه:{ وما یعلم تأویله إلا الله والراسخون في العلم یقولون آمنا به کل من عند ربنا وما یذکـّر إلا أولوا الألباب }
آل عمران ٧
قال النبي(ص):« طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، ألا إنّ الله تعالى يحب بغاة العلم ».
وقال أمير المؤمنين(ع):« كل وعاء يضيق بما جعل فيه ، إلا وعاء العلم فإنه يتسع ».
إعلم یرحمک الله ، أنه إذا کان للنفس توجه وارتباط بالملکوت الأعلی وعالم الملائکة ، فإنه بإذن الله تعالی یضاف علیها من العلوم والمعارف الحقیقیة ، وبالعکس: إذا کان توجهها وارتباطها بعالم الطبیعة أکثر، فإنها لا تنال إلا من ذلک المعدن.. علوم الشیطنة والفساد !
{ إتقوا الله ویعلمکم الله }.
قال سيد الرسل(ص):«.. وإياكم أن تطلبوه لخصال أربع: لتباهوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، أو تراؤا به في المجالس، أو تصرفوا به وجوه الناس إليكم للترؤس..».
یجب أن تکون نیـتك خالصة لله وحده، ومقصودک في طلب العلم، هو طلب الحق والفحص عن المحبوب المطلق . فالغایة والهدف یجب أن یکونا خالصین من کل الشوائب، لأنه إن لم یکن کذلک، کان ذلک العلم حجابا !
قال النبي(ص):« فقيه واحد، أشد على الشيطان من ألف عابد ».
قال الله تعالی:{ إنما يخشى الله َ من عباده العلماءُ }.
قال الشاعر:
تعلم فإنّ العلم زين لأهله.........وفضل وعنوان لكل المحامـــــد
تفقه فإنّ الفقه أفضل قائد.........إلى البر والتقوى وأعدل قاصــد
فإنّ فقيها واحدا متورعا..........أشد على الشيطان من ألف عابد
قیل: بأنّ الشیطان تعرض لأحد العلماء في آخر لحظة من عمره فقال: لقد نجوت من کیدي . فأجاب العالم: کلا لم أنج بعد !
قال الله عز وجل:{ فلولا نفر من کل فرقة منهم طائفة لیتفقهوا في الدین ولینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم لعلهم یحذرون }
التوبة ١٢٢
قال المصطفى(ص):« من جاءه الموت وهو یطلب العلم لیـُحیي به الإسلام کان بینه وبین الأنبیاء درجة واحدة في الجنة ».
وقال أيظا(ص):« من يرد الله به خيرا ، يفقهه في الدين».
إعلم یرحمک الله، أنّ العلم والإدراک هو حظ العقل، وأما الإیمان فهو حظ القلب، والعلم بالله ما دام في حدّ العقل فهو نور، ولکن ما لم یصل إلی أعماق قلوبنا القاسیة فتتأثر وتؤمن به، فلسنا بمؤمنین.
الإنسان لا یکون مؤمنا لمجرد علمه بوجود الله والملائکة والجنة والنار.. الشیطان کان یعلم کل ذلک ولکنه کافر.
" لیس العلم بکثرة التعلیم، بل هو نور یقذفه الله في قلب من یشاء ".
نحن نعلم مثلا بالبرهان والإدراک العقلي، أنّ الأموات لا یضرون الإنسان، ولکن رغم ذلک ففي اللیالي المظلمة نخاف من الأموات، لماذا ؟ لأنّ قلوبنا لم تؤمن بتلک الحقیقة العقلیة ولم یصل الإدراک العقلي إلیها .
ولکن الذین أوصلوا هذا المطلب العلمي إلی القلب بتکرار العمل وکثرة الإقدام في اللیالي المظلمة علی زیارة القبور، لا یخافون الأموات ، بل یستأنسون بهذا المکان الهادیء !
قال الله تعالی:{ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } الزمر٩
قال النبي(ص):« إنّ الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها لا يبالي من أي وعاء خرجت ».
ويقول أمیر المؤمنین(ع):« من علمني حرفا ، كنت له عبدا ».
إعلم ـ یا أبوتقوی ـ أنّ العالم الماهر هو الذي یستطیع أن یمکـّن مقاصده من النفوس بالتبشیر والتنذیر والموعظة والنصیحة، فتـلین تلک النفوس القاسیة المتمردة .
فعلی المبلغ في هدایة الخلق،( فتح) شهیتهم لتقبل الهدي الإلاهي، وإقناعهم بضرورة الإصغاء، فما فائدة تقدیم الطعام لمن لا یرغب فیه ؟
علیه أن یکون طبیبا معالجا حاذقا بإبراز الداء والدواء ، لا فقط یعطي الوصفة لکیفیة إرائة الداء !
قال الشاعر:
العلم زين والسكوت سلامـــة..........فإذا نطقت فلا تكن مكثــــارا
ما إن ندمت على سكوت مرة.........ولقد ندمت على الكلام مرارا
من علامات العالم أن یکون حزینا صامتا مطأطأ الرأس، تظهر علیه آثار الخوف والخشیة والخضوع والخشوع، إذا رآه الرّائي تذکر الله تعالی .
العلم الخالص والحقیقي هو الذي یهجم عنه في قلب السالک الحزن والهم والإنکسار والکآبة والسهر، لأنّ نور العلم یبعث علی الخشیة والحزن والخوف من یوم القیامة.
لأنه إن کان قلبک فرحا مسرورا، لم تنل شیئا من المعارف !
وکل هذه النتائج تـنیر القلب وتـُجلیه من الصدأ وتکون بدایة لإصلاح النفس إنشاء الله .
قال رسول الله(ص):« کلما عمل السالک إلی الله بما علـمه الله من العلم ، أورثه ذلک علم ما لم یعلم ».
وقال أیظا(ص):« من أخلص للحق فيما يقول ويفعل ، علمه الله بلا تعلم ».
قال الإمام علي(ع):« العلم علمان: مطبوع ومسموع ، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع ».
قال الإمام الکاظم(ع):« وأحمد العلم عاقبة ، ما زاد في علمک العاجل. فلا تشتغلن بعلم ما لا یضرک جهله ، ولا تغفلن عن علم ما یزید في جهلک ترکه ».
إنّ العلم الذي لا یوجد فیه ضرر ولا نفع، والذي یهدر الإنسان علیه وقته للتسلي والتلهي، ترکه یکون أفضل. لأنه مع هذا العمر القصیر والوقت القلیل, لا یستطیع الإنسان أن یکون جامعا لکل العلوم وحائزا علی جمیع الفضائل . فلیختر ما یکون أنفع في الدنیا والآخرة بما یناسب حاله !
قال النبي(ص):« من أخلص لله أربعین صباحا ، جرت ینابیع الحکمة من قلبه علی لسانه ».
إعلم بأنه لا یمکن إفشاء کل علم لکل أحد، لا سیما في باب المعارف، بل إنّ أسرار التوحید وحقائقه ، هي أسرارلا بد أن تکون مکتومة ومخزونة علی غیر أهلها .
فإذا ما ألقي إلیک بعض الأسرار فآکتمها.. تلک هي السنـّة التي من ربک . " إنّ صدور الأحرار، قبور الأسرار" !!
قال الإمام السجاد(ع):« إیاک أن تتکلم بما یسبق إلی القلوب إنکاره.. ».
قال الشاعر:
إني لأکتم من العلم جواهــــره..........کي لا یری العلم ذو جهل فیفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حســــــن..........إلی الحسین وأوصی قبله الحسنا
یا رُبّ جوهر علم لو أبوح بـه..........لقیل لي أنت ممن یعبد الوثنــــــا
ولآستحلّ رجال مسلمون دمي..........یرون أقبح ما یأتونه حسـنــــــــا
سئل الصادق(ع) عن علم الله فقال:« لم یزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور، فلما أحدث الأشیاء وکان المعلوم وقع العلم منه علی المعلوم والسمع علی المسموع والبصر علی المبصر والقدرة علی المقدور. قال السائل: فلم یزل الله متحرکا؟ قال(ع): تعالی الله عن ذلک، إنّ الحرکة صفة محدثة بالفعل. قلت: فلم یزل الله متکلما ؟ قال: إنّ الکلام صفة محدثة لیست بأزلیة، کان الله عز وجل ولا متکـلم ».
إنّ علم الله تعالی هو عین ذاته لا زائدا عن ذاته، وعلمه سبحانه بمخلوقاته في الأزل قبل إیجادها، کعلمه بها بعد إيجادها.
قال رسول الله(ص):« يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيطيف به أهل النار، فيقولون: ما لك ؟ فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه ».
وقال أيظا(ص):« إنّ أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنّ أشد أهل النار ندامة وحسرة ، رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه ، فأطاع الله فأدخله الله الجنة ، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل ».
وقال الصادق(عليه السلام):« يغفر للجاهل سبعون ذنبا ، قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ».
قال الله تعالی:{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبیر} المجادلة ١١
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظیم.

الـنـيــــــــــــة

قال الله عز وجل:{ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولائك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } النساء ١٤٦
قال سيّد الرسل(ص):« إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو إمرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ».
وقال أيظا(ص):« إذا إلتقا المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه أراد قتل صاحبه ».
قال أمير المؤمين(ع):« مسحة من المعرفة خیر من کثیر من العمل وما هما إلا کالنیة والعمل ، والفضل للنیة.. وکالروح والجسد ، والفضل للروح ».
قال الإمام الصادق(ع):« إنما خلد أهل النار في النار لأنّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأنّ نياتهم في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فيها. خلد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلا قوله تعالى:" كل يعمل على شاكلته " قال(عليه السلام): على نيته ».
إنّ إهتمام الإسلام بتصفية الباطن من خلال الترغيب في النية الخالصة والإبتعاد عن النية المشوبة ، يعرب عن عناية الإسلام بموضوع النية ، وما ذلك إلا لأنها مصدر العمل وروحه ، فالنية الصالحة مصدر الخيرات، كما أن النية الطالحة منبع الشرور..
قال الله تعالى:{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } الكهف ١١٠
قال النبي(ص) لما خرج إلى غزوة تبوك:« إنّ بالمدينة أقواما، ما قطعنا واديا ولا وطأنا موطئا يغيظ الكفار ولا أنفقنا نفقة ولا أصابتنا مخمصة، إلا شاركونا في ذلك وهم في المدينة. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا ؟! فقال(ص): حبسهم العذر فشاركونا بحسن النية ».
قال الصادق(ع):« الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل ، والعمل الخالص، الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل، والنية أفضل من العمل، ألا وإنّ النية هي العمل ».
أوصی عیسی المسیح(ع) أتباعه قائلا:« إنّ موسی أمرکم أن لا تزنوا، وأنا آمرکم أن لا تحدثوا أنفسکم بالزنا فضلا عن أن تزنوا، فإنّ من حدث نفسه بالزنا ، کمن أوقد في بیت مزوق فأفسد التزاویق الدخان، وإن لم یحترق البیت ».
وفي الخبر: أنّ رجلا من المسلمين قتل في سبيل الله بأيدي الكفار، وكان يدعى بين المسلمين قتيل الحمار، لأنه قاتل رجلا من الكافرين نية أن يأخذ حماره وسلبه، فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته .
وهاجر رجل إلى الجهاد مع أصحاب النبي(ص)، وكانت نيته من المهاجرة أن يأخذ إمرأة كانت في عساكر الكفار ويتزوجها- وتسمى أم قيس- فأشتهر هذا الرجل عند أصحاب النبي: بمهاجر أم قيس!
قال سبحانه وتعالي:{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم } البقرة ٢٢٥
قال رسول الله(ص):« أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة: رجل آتاه الله العلم فيقول الله له: ما صنعت فيما علمت ؟ فيقول: يا رب كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار. فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال فلان عالم، ألا فقد قيل ذلك. ورجل آتاه الله مالا، فيقول الله له: لقد أنعمت عليك فماذا صنعت ؟ فيقول: يا رب كنت أتصدق به آناء الليل وأطراف النهار. فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال فلان جواد، ألا فقد قيل ذلك. والثالث رجل جاهد في سبيل الله فقتل، فيقول الله له: لقد جاهدت ليقال فلان شجاع، ألا فقد قيل ذلك. ثم قال(ص): أولئك أول خلق تسعر بهم جهنم يوم القيامة ».
قال الإمام الباقر(ع):« الإبقاء علی العمل أشد من العمل. قیل: وما الإبقاء علی العمل؟ قال: یصل الرجل بصلة وینفق نفقة لله وحده لا شریک له فکتب له سرا ، ثم یذکرها فتمحی فتکتب له علانیة ثم یذکرها فتکتب له ریاء ».
قال أمير المؤمين(ع):« الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كل داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضا به ».
قالت الزهراء(عليها السلام):« من أصعد إلى الله خالص عبادته ، أهبط الله عز وجل إليه أفضل مصلحته ».
قال النبي(ص):« نية المؤمن خير من عمله ، ونية الكافر شر من عمله ، وكل عامل يعمل على نيته ».
وإلى هذا قال الباقر(ع):« نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأنه ينوي الخير ما لا يدركه ، ونية الكافر شر من عمله ، وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه ».
إنّ من یصلي مثلا صلاة اللیل لیوسع الله علیه رزقه أو یتصدق لدفع البلیة أو ما شابه ذلک.. هذه العبادات مقبولة عند الله سبحانه وتعالى، ولکنها لیست خالصة لله ولا تحتوي علی النیة الصادقة ، وإنما هي لنیل الرغبات وتعمیر الدنیا !
" لا أطلع علی قلب عبد، فأعلم فیه حب الإخلاص لطاعتي وابتغاء وجهي ، إلا تولیت تقویمه وسیاسته ".
الإخلاص في العبادة: هو أن لا یرید عامله عوظا في الدارین !
{ ألا لله الدين الخالص }.
فالمخلص هو من يكون عمله لمحض التقرب إلى الله وحده ، من دون قصد شيء آخر أصلا.. وإنّ من أعلى مراتب الإخلاص، هو إرادة محض وجه الله وحده ، دون توقع عوضا في الدارين ..
وهذا هو الإخلاص المطلق !
قال النبي(صلى الله عليه وآله):« من أخلص لله أربعين يوما ، فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ».
" اللهم ارزقنا توفيق الطاعة ، وبُعد المعصية ، وصدق النية ، وعرفان الحرمة ".
آمين رب العالمين !

الـتـفـــــــكــر

قال الله تعالی:{ الذین یذکرون الله قیاما وقعودا وعلی جنوبهم ویتفکرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانک فقنا عذاب النار} آل عمران ١٩١
التفکر:
هو ترتیب الأمور المعلومة للوصول إلی النتائج المجهولة.
قال النبي(صلى الله عليه وآله):« التفکر حیاة قلب البصیر».
قال الإمام الصادق(ع):« أفضل العبادة ، التفکر في الله وفي قدرته».
وقال أمير المؤمنين(ع):« نبّـه بالتفکر قلبک، وجاف من اللیل جنبک، وآتق الله ربک ».
قد تمر علی الإنسان ساعات کثیرة من الفراغ، والتي لوعُدّت، لمثلت مساحة کبیرة من ساعات عمره.. فعلی المؤمن الفطن أن یملأ هذا الفراغ: إما بالقراءة أو بالتفکر والتدبر. فیسیح بقلبه سیاحة لا تدرک لذتها ولا یوصف کنهها، وهي سیاحة لا تحتاج إلی بذل مال ولا صرف جهد، وذلک بتیسیر من االحق المتعال.
علیک ـ يا أبو تقوى ـ بکثرة التفکر في الله تعالی: أسماءه ، صفاته ، کمالاته ، قدرته ، غناه.. الخ
قال الصادق(ع):« تکلموا في خلق الله ولا تتکلموا في الله ، فإنّ الکلام في الله لا یزید صاحبه إلا تحیرا ».
علیک بکثرة التفکـّر في لطائف المصنوعات ودقائق أسرار الوجود..
أنظر مثلا للبعوض كيف خلقه الله على صغر قدره، على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات، إذ خلق له خرطوما كخرطومه یمتص به الدم ، فیصل عبره إلی معدته وسائر أعضاءه ، وخلق له السمع والبصر..
ولمّا كانت حدقة كل حيوان صغيرة بحيث لا يحتمل الأجفان لصغره، فانظر کیف خلق للبعوض والذباب يدين ليمسح بهما حدقتيه ويطهرها من الغبار والقذى، سبحان الله ! أولا ترى الذباب أنه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه ؟!
تفكر في جسم هذا الإنسان( بأنسجته وعصبه وإفرازاته..) وكيفية تأدية أعضائه لوضائفها المعقدة ما يناهز القرن أو أكثر من الزمن، وما هو إلا لحم وعظم، ولو كان حديدا لتآكل بمرور الأيام..
ثم أنظر إلى النحل وبناء بيوتها من الشمع، واختيارها من جملة الأشكال، (المسدس)، فلا يبني مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا، بل إختار المسدس لخاصية يقصر عن دركها أفهام المهندسين..
تفکر مثلا: في بصمات الأصابع کیف تختلف من شخص لآخر علی کثرتهم. تفکر في نعمة الجوع والتي لولاها لما إلتفت لا إنسان ولا حیوان إلی أکل أبدا، ولمات من الجوع . تفکر في البحار والجبال، في دوران الأرض واختلاف اللیل والنهار..
وتمعن في آيات الذكر الحكيم:
{ وهو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * وفي الارض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} الرعد ٣ ـ ٤
{ وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين * ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}النحل ٦٦ـ ٦٧
{ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي...} الأنعام ٩٥ ـ ٩٩
إنّ هذا التفکر، یفتح للمتوسطین أبوابا من المعرفة ولو أنه للکاملین هو حجاب.. " حسنات الأبرار، سیئات المقربین " !!
قال النبي(صلى الله عليه وآله):« تفکر ساعة ، خیر من عبادة سنة ـ أو سبعین سنة ـ ».
وقال الصادق(ع):« الفكر مرآة الحسنات وكفارة السيئات، وضياء للقلوب وفسحة للخلق، وإصابة في صلاح المعاد، وآطلاع على العواقب، وآستزادة في العلم، وهي خصلة لا يعبد الله بمثلها ».
ويقول الإمام الرضا(ع):« ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل ».
إختر لنفسک ساعة للتفکر، ولیکن ذلک إذا جنّ علیک اللیل حیث یکون القلب خالیا من هموم الدنیا، وغص في التفکر وتأمـّل: من أنا؟ وأین أنا؟ ومن أین جئت؟ وإلی أین أذهب..؟ وغص في التفکر حتی تصل إلی أن تجد نفسک کأن لیس في عالم الوجود سواک !
واسال الباري تقدست أسمائه أن یـُعرّفک نفسک، فلا أشنع ولا أقبح من أن لا یعرف المرء نفسه !
قال رسول الله(ص):« إنّ آدم(ع) قال في وعظه لأولاده: کل عمل تریدون أن تعملوه قفوا له ساعة، فإني لو وقفت ساعة لما أصابني ما أصابني ».
قال أمیر المؤمنین(ع):« لكل شئ دليل ، ودليل العاقل التفكر».
وقال أیظا(ع):« من فكر قبل العمل ، كثر صوابه » !
تمعن: " الحجر الذي یقذف به مجنون إلی قعر البئر، یعجز عن إخراجه عدد من العقلاء " !
لا تعجلن لأمر أنت فاعلــــــه..........فقلما یُدرک المطلوب ذو العجل
فذوالتأني مصیب في مقاصده..........وذو التعجل لا یخلو من الـــزلل
قال الله تعالی:{ کتاب أنزلناه إلیک مبارک لیدّبّروا آیاته ولیتذکر أولوا الألباب } ص ٢٩

الـفــــــطـرة

قال الله تعالی:{ فأقم وجهک للدین حنیفا فطرة الله التي فطر الناس علیها لا تبدیل لخلق الله ذلک الدین القیّم ولکنّ أکثر الناس لا یعلمون } الـروم ٣٠
وقال أيظا:{ ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} يس22
إنّ الله تبارک وتعالی أرسل الأنبیاء لتربیة البشر، وأنزل الکتب السماویة لتعینهم من الخارج علی فطرتهم الداخلیة ، لتنجو النفس من هذا الغلاف الغلیظ (الشجرة الدنیویة الخبیثة).
والقلب ـ وهو مرکز الفطرة ـ له وجهتین إثنين: إحداهما نحو عالم الغیب والروحانیة، والثانیة نحو عالم الطبیعة والشهادة.
اعلم أن من الأمور الفطرية التي (فطر الناس عليها) هو النفور من النقص، ولذلك ينفر الإنسان من كل ناقص، فهو ينفر منه لأنه وجد فيه نقصاً وعيباً. إذن فالفطرة تنفر من النقص والعيب، وفي المقابل تنجذب إلى الكمال. فالفطرة لا بد من أن تتوجه إلى الواحد الأحد، لأن كل كثير ومركب ناقص. وكل ناقص ليس بمرغوب فيه. إذن أمكن بمقتضى هاتين الفطرتين: (فطرة حب الكمال) و (فطرة النفور من النقص) إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى. إذ لا يمكن أن يتوجه الإنسان إلى غير الكمال المطلق ويتعلق قلبه به.
فالفطرة فطرتین إلاهیتین: إحداهما أصليّ: وهو فطرة العشق والتوق للکمال المطلق.. والآخر تبعيّ: وهو فطرة النفور من النقص.
إنّ عشق الراحة مثلا هو ثابت في فطرة کل البشر، والراحة المطلقة, کما هو معلوم، غیر ممکنة في الحیاة الدنیا.. وحتی وإن وُجد بعضها، فهي مشوبة بالجهد والتعب والمشقة في تهیئتها.. وأما في عالم الملکوت فهذه الراحة المطلقة موجودة { فيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ}, {لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} !
لو رجعنا إلى فطرتنا، لوجدناها تعشق الكمال بل تعشق الخير المطلق، بحيث لو حازت ما في الكرة الأرضية لتطلعت إلى غيرها، ولو احتملت أن الكمال في القمر لطلبته، ولو حازت ما في القمر لتطلعت إلى كوكب آخر وهكذا..
فهي ما إن تحصل على شيء حتى تتمنى الأفضل منه وتنطلق نحوه، فإذا به ينكشف لها أن ذلك لم يكن المعشوق الحقيقي, فتبحث عن غيره. ذلك إن معيار المحبوب الحقيقي هو شعور المرء بالطمأنينة والاستقرار النهائي عند الوصال، لأن غاية العاشق هي الوصول إلى معشوقه.
إن هذا الظمأ الفطري لا يعرف الإرتواء حتى لو سلك جميع المسالك ورمى بنفسه في المهالك !
مثلا آخر: عشق الجمال.. هو أیظا ثابتا في فطرة کل البشر والتي تمیل ألا شعوریا إلی الجمال وتنفر ألا شعوریا من القبیح..
ولو أنّ الإنسان حاز مثلا ملکة جمال مدینة ، لتاق إلی ملکة جمال بلد، ثم إلی ملکة جمال العالم.. وهکذا.
أضف إلی التوق للغنی والنفور من الفقر، والتوق إلی القوة والنفور من الضعف.. الخ
فمحبوب الإنسان إذن هو ناقص ومحدود.. بینما محبوب الفطرة مطلق تام !
والإنسان بفطرته ـ من حیث لا یشعرـ هو متوجه إلی عالم کله راحة وجمال وغنی لا تعب فیه ولا نصب.. فبفطرته هو مؤمن بالنشئة الغیبیة.
قال رسول الله(ص):« کل مولود یولد علی الفطرة ، إلا أنّ أبواه یهودانه أو ینصرانه أو یمجسانه ».
فالإنسان یولد وهو مفطور علی الإیمان بالله، وإنما الذي یفسده أو یجعله سلیما بعد ذلک، إنما هما الأبوین والمجتمع .
فالفطرة تتوجه« للواحد» « الأحد», لأنّ کل کثير ومرکب ناقص.
وقد فسّرت الفطرة بـ:« فطرة المعرفة(العلم الذي أودعه الله في الإنسان مثل التوحيد والخير والشر ومعرفته..)»، « فطرة التوحید»، «فطرة الإسلام».
(فطرة الله التي فطر الناس عليها) فطرهم وخلقهم عليها, مثل القرص المدمج(hard disk) في الكمبيوتر فيه معلومات كثيرة , ففطرة الإنسان ملأها الله بأشياء كثيرة من معرفة ووحدانية الله إلا أن العبد لا يشغل هذا القرص وران عليه غبار الزمن!!
إن فطرة العجوز في كذا مكان, أو البروفسور في كاليفورنيا, أو الأعرابي في الصحراء.. فطرتهم هي واحدة !
قال الحق سبحانه:{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولائك كالأنعام بل هم أضل أولائك هم الغافلون } الأعراف ١٧٩
وقال أيظا:{ وما أنت بمسمع من في القبور} فاطر٢٣
هو الإنسان الخارج والمتمرّد عن فطرته والبعید عن ساحة قدس الله.. هو المریض القلب والناکر لوليّ نعمته.
وهو تفسیر باطنيّ للآیة ولیس معناه أنّ أهل القبور لا یسمعون!
والحمد لله ربّ العالمین.

مواقع ومنتديات خاصة

منتدياتي المفضلة
مواقع اسلامية واخبارية: