اللهم صل على محمد وال محمد --- aboutaqua@yahoo.it --- اللهم صل على محمد وال محمد

الأصل الخامس للدين: المعاد

الركن الأول: في أهمية المعاد وأدلته:
أولا : أهمية البحث في المعاد:تعريف المعاد: المعاد هو وجود الأجسام ثانية, وإعادتها بعد موتها وتلاشيها للحساب. فبعد أن تفارق الروح البدن بالموت, تعود إليه في يوم القيامة للجزاء , وهو حق لا ريب فيه! الإيمان بالمعاد أحد أصول الدين وأركانه, وأحد الأسس التي يقوم بها تأثير الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى, فإن مجرد الإيمان بالله, وكونه تعالى خالق للكون, وأنه يعتني بخلقه ويهديهم للصراط المستقيم, وأنه يبعث الانبياء بتعاليم لسعادة البشر, ويحافظ عليها بعد الأنبياء بالأئمة, لا يوجب العمل بها بين الناس ما لم يستوجب العدل الالهي مجازاة الناس في يوم القيامة .وذلك لأن مجرد الإيمان بباقي اصول الدين وعدم الإيمان بالمعاد والبعث والجزاء، لا يؤثر مثل هكذا إيمان إلا بالإنسان الكامل مثل النبي أو الوصي والولي, كقول الإمام علي عليه السلام:" إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولا طمعاً في ثوابك, ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك". وأما باقي الناس, بسبب مشاغل الدنيا وزخارفها وهوى النفس وشهواتها, يمتنع الإنسان عن الاشتغال بتعاليم الله وتطبيقا, وذلك لعدم وجود النفع والضرر بدون الثواب لمن يطيعها أو العقاب لمن يخالفها .فإذن الإيمان بالمعاد والحساب والجزاء بالثواب والعقاب, هو الذي يكون له أكبر الأثر في توجه الإنسان لطاعة الله تعالى سبحانه، وإقامة العبودية له والعمل بتعاليمه وأحكامه ، والإتيان بالأعمال الصالحة والأفعال الخيرة والتحلي بالأخلاق الفاضلة ، ويتوجه الإنسان بجد لتحمل المسؤولية الدينية والبحث عن الحق وفق الطريق المستقيم, والاجتناب عن كل ما يخالف اوامر الله تعالى، ويحاول كل إنسان أن يزكي ويطهر نفسه من المعاصي والذنوب والأخلاق السيئة .
ثانيا: عقيدتنا في المعاد الجسماني:
الإعتقاد بالمعاد الجسماني ضرورة من ضروريات الدين الاسلامي، دل صريح القرآن الكريم عليها, قال الله تعالى:{ أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه }. وقال:{ وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد}. وقال:{أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد }.
وما المعاد الجسماني على إجماله, إلا إعادة الانسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الأولى بعد أن يصبح رميما . ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني, أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن، وما يتبعها من الحساب والصراط والميزان والجنة والنار والثواب والعقاب, بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية .
ولا تجب المعرفة بجزئيات المعاد على التحقيق, والتي لا يصل إليها إلا صاحب النظر الدقيق: كالعلم بأن الأبدان هل تعود بذواتها أو إنما يعود ما يماثلها بهيئات ؟، وهل أن الأرواح تعدم كالأجساد أو تبقى مستمرة حتى تتصل بالأبدان عند المعاد ؟، والمعاد هل يختص بالانسان أو يجري على كافة ضروب الحيوان ؟، وأن عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي ؟.
وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار, فلا تلزم معرفة وجودهما الآن ولا العلم بأنهما في السماء أو الأرض.. وكذا إذ وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة أنها ميزان معنوية أولها كفتان.. ولا تلزم معرفة أن الصراط جسم دقيق أو هو الاستقامة المعنوية..الخ
ثالثا: أدلة المعاد:
الإيمان بالمعاد في يوم القيامة والاستمرار للحياة بعد الموت, هو فرع الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالي وعدله وحكمته، وأنه سبحان لم يخلق الخلق باطلاً ولا انه كلف الإنسان عبثاً, وتعالى الله من أن يوعد ولا يفي بقوله .هذا وقد عد ما يقارب ثلث آيات القرآن تذكر المعاد وأحواله إما تصريحاً أو تلويحاً ، كما ان رسول الله(ص) قد فصل كثير من مباحث المعاد واحواله ، فلذا يعد المعاد من اصول الدين ومن ضروراته التي يجب الإيمان بها بالدليل والبرهان .وأما ما يقام من الأدلة عليه من غير القرآن والسنة النبوية المطهرة , ففي الغالب لكي يطمئن المؤمن بإيمانه وليرد شبه الكفار والمنافقين واضرابهم .ومن أدلة المعاد التي قد تعتبر مستقلة بعض الشيء عن الإيمان بباقي أصول الدين ـ وإن كان لا ينفع الإيمان بالمعاد بدون الإيمان بباقي أصول الدين الأخرى كما قد لا ينفع الإيمان بها بدونه ـ هي:
الدليل الأول: أن حشر الأجسام ممكن, والصادق أخبر بوقوعه فيكون حقا . أما إمكانه: فلأن أجزاء الميت قابلة للجمع وإفاضة الحياة عليها، وإلا لما اتصف بها من قبل ، والله تعالى عالما بجميع المعلومات الكلية والجزئية ليميز بين الأجزاء الأصلية لزيد ولعمرو ويرد كل أصل إلى بدن صاحبه . وإذا ثبتت هذه المقدمات, ظهر أن تلك الأجزاء التي تفرقت يمكن تركيبها بعينها كما كانت ، وهو مرادنا بجواز المعاد الجسماني. قال الحق سبحانه:{ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} الروم ٢٧ . ودل قوله " وهو العزيز الحكيم " على كمال علمه وقدرته تعالى وكون الإعادة ممكنة .
وأما لأن الصادق أخبر بوقوعه, فلأنه ثبت بالتواتر أنه(ص) كان يثبت المعاد البدني ويقول به, فيكون حقا ووجب القطع به ، لأن المعصوم إذا أخبر عن وقوع أمر ما, وجب تصديقه والقطع به . وهو المطلوب.
الدليل الثاني: الفطرة تدل على المعاد: إن الله تعالى غرس في طبيعة الإنسان وذاته حب الكمال والبحث عنه وتحصيله, وهذه الغريزة الذاتية كما تدعو الإنسان للإيمان بالله تعالي, تدعوه لحب البقاء المنعَم الخالي من المزاحمة والتعب, وهو عبارة أخرى للإيمان بالمعاد واحواله . والتدبر في أحوال النفس وحالاتها من حب البقاء والسعي لتحصيل الراحة في المستقبل اكبر شاهد على ما ذكرنا. ويكفي لصدق هذا المطلب النظر في تاريخ الإنسان المؤمن أو الكافر، المتحضر منه أو البدوي ، المدني أو القبلي, تراهم يعتنون بامر موتاهم ويتعاملون معهم بما يعتقدون انه سوف ينفعهم في قبورهم, او عند رجوع أرواحهم لابدانهم حين البعث بعد الموت لكي يستفادون منها، وما كشف في الآثار في جميع بقاع الأرض يدل على ما حكيناه . هذا وما يحكى عن الكفار بعدم الاعتناء بامر المعاد وتكذيبه هو مخالف للفطرة السليمة ، وهذا لترجيحهم حب الراحة والمتعة العاجلة على الباقية الدائمة ، ولأن المعاد يوجب تحمل للمسؤولية الدينية ويضع بعض الحدود والالتزام بالأخلاق الفاضلة التي قد تفوت مصالحهم .
الدليل الثالث: التدبر في الكون يوجب الإيمان بالمعاد: كل إنسان ينظر في الكون ويتدبر في حسن وجوده ودقة النظام الحاكم و البداعة الحاكمة على مخلوقاته وتسخيرها لخدمة الإنسان، لابد له من الاعتقاد انه يسير لغاية وهنالك أهداف تحكمه يراد منه الوصول إليها. وهذا التفكر كما يدل على خالق الوجود بنفسه, يدل على استمرار الوجود سواء مثل ما يثبته الدين او مثل ما تثبته النفس مستقلة عنه . فإن الإنسان كما أنه لا يرضى أن يصنع أو يوجد الشيء الجميل بدون غاية وغرض ، كذلك يأبى أن يكون هذا الكون وبالخصوص الإنسان منه خالي من الغاية والغرض، وهذا يدعوه للتفكر في حقيقة نفسه ومصيرها ويجره للإيمان بالمعاد واحواله وحقائقه كما يدعوه للإيمان بخالقه .
الدليل الرابع: أنه لو لم يكن المعاد حقا, لقبح التكليف . وبيان ذلك: أن التكليف مشقة مستلزمة للتعويض عنها ، والمشقة من غير عوض ظلم ، وذلك العوض ليس بحاصل في زمان التكليف ، فلا بد حينئذ من دار أخرى يحصل فيها الجزاء على الأعمال ، وإلا لكان التكليف ظلما وهو قبيح تعالى الله عنه.
الدليل الخامس: أن يقال: إنه تعالى خلق الخلق إما للراحة أو للتعب والألم أو لا لواحد منهما, والثاني باطل لقبحه وامتناعه من الغني الحكيم الرحيم ، والثالث باطل لكونه سفها وعبثا يمتنع من الحكيم أيضا، فبقي أن يقال إنما خلقهم للراحة وهي إما أن تصل إليهم في الدنيا، وهو باطل لأن كل ما يعتقد في الدنيا لذة فإنما هو دفع للألم ، كالذي يظن من لذة الأكل فإنما هو دفع ألم الجوع ، فلذلك فإنما ألذ لقمة تؤكل هي الأولى لشدة ألم الجوع هناك ، وكل لقمة تأخرت فهي أقل لذة لضعف ألم الجوع هناك ، وكذلك سائر اللذات الحاصلة في هذا العالم . وبتقدير أن يحصل في هذا العالم لذة فإنها قليلة والغالب إما الآلام أو دفعها، وليس من الحكمة تعذيب الحيوان بنيران الآلام والمكروهات لأجل الفوز بذرة من اللذات ، فإذن ليس المقصود من خلق الإنسان إيصال الراحة إليه في الدنيا ، فلا بد من القطع بوجود لذة أخرى وعالم آخر تحصل فيه الراحة التامة التي تستحقر في الوصول إليها هذه الآلام ، وتلك هي الدار الآخرة في المعاد الجسماني .
الدليل السادس: دلالة القرآن على ثبوته وإنكار على جاحده فيكون حقا. نحو قوله تعالى:{ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليهم}. وكقوله تعالى:{ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} طه ١٥
الركن الثاني: أهم مراحل إنتقال الروح:
أولا : مقدمة في تجرد الروح:
الروح موجود لطيف مجرد عن المادة دون لوازم هيئتها من الشكل، ليس بجسم ولا جسماني, وهي متعلقة بالبدن المادي بالدنيا, وفي كل نشأة ببدن مناسب لتلك النشأة, لا أنها ترجع لبدن أخر في الدنيا حتى يقال بتناسخ الأرواح بل ببدنها في نشأة أخرى، و الروح هو نفس الإنسان أو المرتبة العالية منها .وحقيقة الإنسان بروحه لا ببدنه, وينسب للروح جميع الاعمال النفسية, سواء ذهنية من التصور والتصديق إلى الوهم والشك إلى التفكر والتذكر, أو أن تكون أمور غريزية عاطفية كالحب والشوق والكراهية والبغض, إلى الأمور الوجدانية والاطمئنان كالضمير واللذة والألم والخوف, والأخلاقية كالكرم والشجاعة وغيرها. بل حتى الأفعال العضلية والأعمال التي تعتمد على الجهود البدنية مبادئها نفسية ويتم عملها حسب رغبات النفس وأوامرها هنا .
واستدل لوجود النفس ببحوث مطولة أهمها: أن الإنسان يغفل عن أعضائه البدنية ولا يغفل عن وجود ذاته التي هي نفسه ، وإن البدن متغير وتتبدل اجزائه ولا تتبدل النفس الفكرية ، والخواص المكتسبة الخلقية باقية بتبدله ، كما استدل عليها بتحضير الأرواح ، ووجود الأحلام، و التنويم المغناطيسي، وعدم انقسامها وتركبها من أجزاء ، وأنها تسما( الأنا ).واعلم أن النفس, بالإيمان بالله تعالى وبباقي الأصول الدينية حتى تكمل, خمسة , يتحول جوهر النفس إلى روح نورانية لطيفة لها القابلية على الأعمال الصالحة والطاعات المقبولة إذا وافقت الفروع الدينية العشرة ، ومن لم يؤمن بأصول الدين خمستها مجتمعة تتحول روحه إلى نفس ظلمانية كثيفة, لا يقبل لها عمل سواء وافق الأحكام الشرعية أو خالفتها .وعلى هذا, فالنفس, بالإيمان والعمل بما يوافق أوامر الله تعالى أوعدمهما, تتحول ذاتها و تكتسب صفات وحالات بها تثاب وتعاقب حتى تصفى, سواء في الدنيا أو في البرزخ او يوم القيامة, ثم تستقر إما في الجنة أو في النار.
قال الله تعالى:{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}.
ووجه الدليل: أنه لا شئ من الإنسان المقتول في سبيل الله بميت، وكل بدن وما يقوم به ميت. أما الصغرى فلقوله تعالى:" ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء " ، وأما الكبرى فبالضرورة ، فإذن هو جوهر مجرد .
قال أمير المؤمنين(ع) في بعض خطبه:" حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش وتقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي".
ووجه الدليل: إن الروح باقية بعد الموت بصفة الرفرفة ، ولا شئ من البدن وما يقوم به بعد موته بباق، فلا شئ من الروح ببدن وزنا تقوم به .
ثانيا: الموت وماهيته:
هو توفي الروح من البدن وانفصالها عنه وانتقالها من عالم الدنيا والشهادة إلى عالم المثال أو الملكوت أو الغيب المسمى بالبرزخ ، وبالموت تنتقل الروح لأول منازلها الجديدة وتتحول من دار الدنيا إلى دار أخرى لتنال معادها الأولي وتقوم قيامتها الصغرى। وفي أول مراحل الموت تنكشف للإنسان حقيقته ويتبين ذاته, ويرتفع عنه الحجاب المادي ويدرك حاله الروحاني الذي كان محجوب عنه بسبب انشغاله بعالم المادة . وللموت حالات حسب ذات الإنسان وأعماله فإما سهل ومرضي او عسير مكروه . كما أن قابض الأرواح إما ملك الموت أو أعوانه, ويحضرون لقبض الروح بأشكال جميلة لطيفة أو مخيفة قبيحة حسب إيمان الإنسان أو عدمه .
ثالثا: البرزخ.. وادي السلام أو برهوت:
هو أول منزل يرده الإنسان بعد الموت عندما تنفصل روحه عن بدنه ، وبعد أن ترافق الروح البدن فترة مصاحبة له من غير دخول فيه, حتى يُدخل القبر فتفارقه إما متحسرة مدهشة أو فرحة مستبشرة ، وفي البرزخ تقام قيامة الإنسان ـ الروح ـ الصغرى, و معاده الاولي، وتضغط الأرواح ، ويحاسب فيه الإنسان أول حساب بتوسط ملكين هما منكر ونكير للكافر ومبشر وبشير للمؤمن، ويسأل الإنسان عن اعتقاده وايمانه حتى يكون على بينة من امره, وتقام عليه الحجة وبعدها ينتقل إما إلى عالم الملكوت العلوي وينتقل به إلى وادي السلام إن كان مؤمنا، وأما إذا كان كفر فينتقل به إلى ملكوت العالم السفلي المسمى برهوت .وفي البرزخ كل إنسان حسب حاله حيث يحشر مع من يحب, ويجتمع المؤمنون للتحدث والزيارة والفرح والنعيم حتى يتمنون قيام القيامة الكبرى لينالوا الجزاء التام ويدخلوا الجنة. والكفار والمنافقين في عذاب مقيم, يتمنون أن يرجعوا للدنيا حتى يعملوا الأعمال الصالحة, ولكن هيهات لا رجوع . وأما من خلط عمل صالح وطالح من المؤمنين, فقد تأتيه حالات تنغص نعيمه وتفصله عن أحبائه. والكل قد يزورون أهليهم بالمناسبات ليطلعوا على آثارهم .والمؤمن ينتفع بما يُنفق عنه من الصدقات, ويفرح بما يهدى إليه من الأعمال الصالحات والكلمات الطيبات من الدعاء والقرآن، وهكذا يبقى الإنسان في البرزخ الذي قد يطول ملايين السنين حتى تأتي الصيحة الأولى فيفنى .
رابعا: النفخ في الصور الأول:
وهو المسمى بالصيحة الأولى وهي قبل يوم القيامة والمعاد، وبتوسط هذا النفخ, يصعق ويموت جميع من في السماوات والأرض ولا يبقى إنسان ولا حيوان ولا ملك إلا ما شاء الله تعالى، و يبقى هذا الحال حتى النفخ الثاني للصور عندما يأتي أجله. قبل هذا النفخ في الصور والصيحة الأول توجد كثير من العلامات منها ظهور الإمام المهدي ونزول المسيح من السماء وخروج دابة من الارض تكلم الناس، وياتي للارض دخان مبين من السماء ، وزلازل ، وغيرها .
خامسا: النفخ في الصور الثاني:
وبتوسط هذا النفخ, يبدأ يوم القيامة الأكبر والمعاد التام ، حيث ينشر الناس وجميع من مات سواء بالصيحة الأولى أو قبلها إلا ما شاء الله ، وتطوى السماوات والأرض وتكور الشمس وتتكدر النجوم, والكواكب تنتثر والسماوات تنفطر وتطوى الارض وتبدل لأرض مناسبة لحشر من قامت قيامتهم الكبرى، كما أن الجبال تسير والبحار تنفجر.. الخ
الركن الثالث: في الوعد والوعيد والثواب والعقاب:
البحث الأول: الوعد, هو الإخبار بوصول نفع إلى الغير أو دفع مضرة عنه في المستقبل من جهة المخبر. والوعيد, هو الإخبار بوصول ضرر إلى الغير أو فوت نفع عنه .
والمستحق بالافعال الاختيارية ستة: مدح ، وشكر، وذم ، وثواب ، وعقاب ، وعوض .
فالمدح: هو القول المنبئ عن عظم حال الغير مع القصد إلى ذلك . والشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع نوع من تعظيم المنعم بقول أو فعل . والذم: هو القول المنبئ عن اتضاع حال الغير مع القصد إلى ذلك . والثواب: هو النفع الخالص المستحق المقارن للتعظيم والتبجيل . والعقاب: هو الضرر المحض المستحق المقارن للاستخفاف والاهانة . والعوض: هو النفع المستحق الخالي من تعظيم وتبجيل . ويستحق المدح والثواب بفعل الواجب والمندوب وترك القبيح ، وأما الذم والعقاب فيستحقان بفعل القبيح والاخلال بالواجب ، وأما الشكر فيستحق بالنعم والاحسان ، وأما العوض فيستحق بالمشقة الواصلة من الغير لا على جهة الاستحقاق .
البحث الثاني: المكلف إما أن يكون مطيعا أو عاصيا. فإن كان مطيعا, فإنه يستحق بطاعته الثواب: وذلك بدليل المعقول والمنقول. أما المعقول فمن وجهين:
( الوجه الأول ) أن التكليف إما لفائدة أو ليس، والثاني عبث لا يجوز من الحكيم تعالى. والأول, فتلك الفائدة إما أن تعود إلى الله أو إلى العبد أو إليهما، والأول والثالث باطلان لتنزهه تعالى عن فائدة تعود إليه ، فتعين الثاني . الفائدة إما أن تعود إلى العبد في العاجل، وهو باطل, لأن اشتغال العبد بالعبادة الشاقة محض الضرر أو راجح الضرر، فتعين أن تعود إليه في الأجل، وهو نفس الثواب المستحق بالطاعة التي يقبح بدونها الابتداء به .
( الوجه الثاني ) إن التكليف إلزام مشقة ، وإلزام المشقة من غير عوض قبيح عقلا, فالتكليف من غير عوض قبيح عقلا .
وأما المنقول: فقوله تعالى:{ جزاء بما كانوا يعملون } وأمثاله كثير.
البحث الثالث: المكلف العاصي إما أن يكون كافرا أو ليس، أما الكافر فأكثر الأمة على أنه مخلد في النار، وأما من ليس بكافر فإن كانت معصيته كبيرة فمن الأمة من لم يقطع بعقابه: إما لأن معصيته لم يستحق بها العقاب، وإما لأنه يستحق بها العقاب إلا أن الله تعالى يجوز أن يعفو عنه.
وحجة من قطع بعدم عقاب صاحب الكبيرة : أن كل من يدخل النار مخزي يوم القيامة ، وكل من أخزي فهو كافر. بيان الصغرى, قوله تعالى:{ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته }. وصيغة من تقتضي العموم . وبيان الكبرى, قوله تعالى:{ إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين}.
دلت الآية على اختصاص الخزي فقط بالكافرين ، فكل مخزي يومئد إلا كافر، فمن ليس بكافر لا يكون مخزي, فلا يدخل النار !
البحث الرابع: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) أولئك يستحقون الثواب الدائم مطلقا، والذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك يستحقون العقاب الدائم مطلقا . والذي آمن وخلط عملا صالحا وآخر سيئا: فإن كان السئ صغيرا فذلك يقع مغفورا إجماعا، وإن كان كبيرا, فإما أن يوافي بالتوبة فهو من أهل الثواب مطلقا إجماعا، وإن لم يواف بها فإما أن يستحق ثواب إيمانه أو لا ، والثاني باطل لاستلزامه الظلم ، ولقوله تعالى:{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}، فتعين الأول. فأما أن يثاب ثم يعاقب وهو باطل بالاجماع, لأن من دخل الجنة لا يخرج منها، فحينئذ يلزم بطلان العقاب, أو يعاقب ثم يثاب وهو المطلوب. ولقوله(ص):" ان أهل النار يموتون ولا يحيون، وان الذين يخرجون منها، وهم كالحمم والفحم فيلقون على نهر يقال له الحياة ، أو الحيوان ، فيرش عليهم أهل الجنة من مائه فينبتون، ثم يدخلون الجنة وفيهم سيماء أهل النار، فيقال: هؤلاء جهنميون فيطلبون إلى الرحيم عزوجل، اذهاب ذلك الاسم عنهم، فيذهبه عنهم، فيزول عنهم الاسم، فيلحقون بأهل الجنة ".
وأما الآيات الدالة على عقاب العصاة والفجار وخلودهم في النار, فالمراد بالخلود هو المكث الطويل، واستعماله بهذا المعنى كثير في القرآن। والمراد بالفجار والعصاة هم الكاملون في فجورهم وعصيانهم وهم الكفار أصلا، بدليل قوله تعالى:( أولئك هم الكفرة الفجرة ) ، وتوفيقا بينه وبين الآيات الدالة على اختصاص العقاب بالكفار نحو قوله تعالى: ( إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) وغير ذلك من الآيات .
الركن الرابع: في التوبة والعفو:
البحث الأول: في حقيقة التوبة .
التوبة مركبة من ثلاثة أمور: أحدها الندم على الماضي من قول أو فعل ، والثاني الترك له في الحال، والثالث العزم على عدم المعاودة إليه في الاستقبال . وهي واجبة لوجوب الندم إجماعا على كل قبيح أو الإخلال بواجب، والباعث عليها هو الإعتقاد بكون فعل المعصية مستلزما للضرر العظيم في الدنيا والآخرة , فيندم العبد على القبيح لكونه قبيحا لا لخوف النار ولا لدفع الضرر عن نفسه , وإلا لم تكن توبة حقيقية .
والتوبة واجبة على العبد, لقوله تعالى:{ وتوبوا إلى الله توبة نصوحا }. وهي مقبولة قطعا لقوله تعالى:{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده }. ويسقط العقاب بها عندنا تفضلا من الله تعالى .
عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:" إن تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله وستر عليه". فقيل وكيف يستر عليه ؟ قال:" ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه, ويوحي إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض أن اكتمي عليه ذنوبه, فيلقى الله عز وجل حين لقاه, وليس شئ يشهد عليه بشئ من الذنوب".
عن أبا جعفر(ع) قال:" إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده , من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فإنه تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجال براحلته حين وجدها ".
عن أبا عبد الله(ع) قال:" إن العبد إذا أذنب ذنبا , أجل من غدوة إلى الليل, فإن استغفر لم يكتب عليه".
اعلم : أن من الذنب ما في حقه تعالى, أو في حق آدمي . فإن كان في حقه تعالى, فإما من فعل قبيح فيكفي منه الندم والعزم على عدم المعاودة ، أو من إخلال بواجب فإما أن يكون وقته باقيا فيأتي به وذلك هو التوبة منه ، أو خرج وقته أن يسقط بخروج وقته كصلاة العيدين مثلا, فيكفي الندم والعزم على عدم المعاودة , أو لا يسقط فيجب فضاؤه . وإن كان في حق آدمي فإما أن يكون إضلالا في دين بفتوى خاطئة مثلا , فالتوبة إرشاده وإعلامه بالخطأ ، أو ظلما لحق من الحقوق فالتوبة منه إيصاله إليه أو إلى وارثه أو الاتهاب(قبول الهبة, سؤالها منه).
البحث الثاني: في دلائل العفو وهي من وجوه :
( أحدها ) قوله تعالى:{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات }. وقوله:{ ويعفو عن كثير}. فنقول: هذا العفو إما أن يكون عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه ، أو عمن لا يحسن عقابه . الثاني باطل، لأن عقاب من يقبح عقابه قبيح ، ومن ترك مثل هذا القبيح لا يقال إنه عفا . وأما إذا كان له أن يعذبه فترك تعذيبه يقال إنه عفا ، فتعين الأول .
( الثاني ) إنه لو كان العفو عبارة عن إسقاط العقاب عن التائب لكان قوله:{ يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} تكرارا من غير فائدة ، فعلمنا أن العفو عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه .
( الثالث ) قوله تعالى:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }. وجه الدليل: أن قوله:{ ويغفر ما دون ذلك} يفيد القطع بأنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك ، ويندرج في ذلك الصغيرة والكبيرة بعد التوبة وقبلها, ثم قوله بعد ذلك { لمن يشاء } يدل على أنه يغفر كل ذلك ، لكن لا للكل بل للبعض، فكان غفران الكبيرة والصغيرة منه صادقا .
( الرابع ) قوله تعالى:{ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }.
( الخامس ) قوله تعالى:{ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم }। وكلمة (على) تفيد الحال ، أي ذو مغفرة لهم حال كونهم ظالمين .
الركن الخامس: مواقف يوم القيامة والمعاد الأكبر:
إنه اليوم العظيم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما ارضعت, ويوم يفر الإنسان من امه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه, وترى الناس سكارى وليسوا بسكارى ولكن عذاب الله شديد . وإن كان يوم القيامة يسمى يوم, ولكنه يعد بآلاف السنين من سني الدنيا وإن كان هو يوما واحدا, لأن هناك لا شمس تشرق ولا أرض كارضنا تدور حولها, ولكن هناك أرض خاصة ونور وظلمة خاصة, حسب إيمان الإنسان وأعماله . وتوجد في هذا اليوم مواقف مهمة هي التي يتم بها المعاد وتقام به الحجة الكبرى على الناس وينالون جزاء اعمالهم ، واهم هذه المواقف هي:
الموقف الأول: النشر:
و بعد هذه الأحداث التي ذكرناها, في الصيحة الثانية بعد النفخ بالصور, يتحقق نشر الإنسان و يخرج كل من كتب عليه ان تقوم قيامته بسرعة من الأجداث ، وترجع الأرواح لتتلبس باجسادها المناسبة لها ، وتخرج الأجساد مثل الزرع الذي يخرج من الارض وتتلبس بالروح.
الموقف الثاني: الحشر:
وبعد ان تتلبس الارواح بالأجساد, يحشر الناس حيث تسوقهم الملائكة إلى أرض المحشر, ويبدأ يوم القيامة الكبرى والمعاد التام لكل مجموعة من الناس حيث تتبع امامها ، ويقودها الملائكة لمواقفها ولموردها في أرض المحشر, في أرض القيامة التي تقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من اذن له الرحمان وقال صوابا .
الموقف الثالث: الحوض:
بعد أن يحشر الناس في ذلك اليوم العصيب, وعنده كل أمة تتبع إمامها ويصطفون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذله ، ولا يتكلمون إلا همسا من الخوف وياخذهم العطش الشديد ، وبعد زمان لا يعرف مداه إلا الله تعالى, فأول إنسان ينادى, هو النبي محمد صل الله عليه وآله وسلم, فيكرمه الله تعالى بالحوض .والحوض, فيه شراب أحلى من العسل وأصفى وأبيض من اللبن, من يشرب منه لا يظمأ أبدا، فيأمر النبي الإمام علي(ع) بان يسقي محبيهم واتباعهم ومواليهم، والنبي يشرف على ذلك. فترد عليه رايات الجماعات حسب أئمتهم فيردون ظمائا ولا يسقون، و تصرف وجوههم تلقاء النار. وبعض الرايات فيها كانوا من أمة النبي واصحابه فيقول(ص): هؤلاء أصحابي . فينادى: أنهم غيروا دينك وبدلوا. فيرفضهم ولا ينظمون تحت راية محبيه ومتبعي دينه . سقانا الله من الحوض وحشرنا الله مع محمد وآله الطيبين الطاهرين.
الموقف الرابع: إعطاء الكتب:
إن الإنسان في الحياة الدنيا تكتب اعماله, سواء على نفسه وذاته او على صحف بيد ملائكة اليمين والشمال، ولا يغادر من أعماله صغيرة ولا كبيرة إلا وتكون قد احصيت في ذلك الكتاب ، فتكون هي كتاب أعماله أو يقال له صحيفة الأعمال। وفي يوم القيامة في موقف اعطاء الصحف بعد أن تنشر، فمن أعطي كتابه بيمينه فيعلم أنه سوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب الى أهله وجماعته مسرورا ، وأما من يعطى كتابه بشماله أومن وراء ظهره , فسوف يدعوا ثبورا .ومن لطف الموقف يعطى ملف الدعوى للمحاكم والمحاسب بيده في يوم القيامة, ولا يقدر على تغييره والتلاعب بمحتواه , وهذا ما يفرح المؤمن ويؤلم الكافر.
الموقف الخامس: الحساب و الشهود:
بعد أن يعطى كل إنسان صحيفة اعماله, يبدأ الحساب وهو مشهد عجيب, حيث يحاسب جميع الناس في ان واحد, وتطول فترة حساب كل إنسان وتقصر حسب اعماله واهميتها, منهم من يقصر حسابه عن مقدار صلاته ، ومنهم من يطول حسابه مئات السنين بل آلاف السنين من سني الدنيا، ثم في هذا الموقف الرهيب الذي تقف فيه القلوب لدى الحناجر متروعة وخائفة , يبدأ الحكم والقضاء وتفصل جميع القضايا المتعلقة بكل انسان، وفي كل فقرة تقرأ من أعمال الإنسان, لا يسعه إلا أن يعترف ويقر على نفسه لأن الشهود لا يمكن ان ترد شهادتهم ، وبإقامة الشهود وبتكلمهم يتم الحساب.
الشاهد الأول: الله سبحانه وتعالى: ومن أهمية الموقف يكون المحاسب والقاضي ومن له القول الفصل, هو أول شاهد وهو الله سبحانه وتعالى, حيث هو سبحانه على كل شيء شهيد.
الشاهد الثاني: نبي كل أمة:وذلك لكون الله تعالى يطلع كل نبي على أعمال امته, ومن كان يجب عليه الانضمام تحت لوائه ودينه ، فيشهد عليه انه اتبعه أم لا .
الشاهد الثالث: نبينا محمد(ص):نبينا(ص) كما يكون شاهد على أمته, يكرمه الله تعالى بالشهادة على جميع الأمم وأنبيائهم .
الشاهد الرابع: البعض من الأمة الإسلامية:هم الذين يكرمهم الله تعالى بالشهادة كرامة لنبيه, لأنهم الأئمة على المسلين بعده, وقد أختارهم الله تعالى لهداية الناس بعده وأوجب عليهم اتباعهم, فيشهدون لمن تبعهم حتى تقبل أعماله .
الشاهد الخامس: الأعضاء والجوارح والجلود:ومن عجيب مواقف القيامة تشهد على الإنسان في يوم القيامة أعضاءه, كيديه ورجليه بما عملت, وكذلك لسانه بما تكلم, وعيناه بما نظرت, واذناه بما سمعا, وحتى جسمه بما لامس, ورجلاه إلى أين ذهب بهما، فينطقها الله فتقر عليه باعماله صالحة كانت أو طالحة .
الشاهد السادس: الملائكة:وهم الكرام الكاتبين الذين كانوا مع الإنسان في الدنيا, يحصون عليه أعماله ويراقبون حركاته و سكناته .
الشاهد السابع: الأرض:حيث كل بقعة من بقاع الارض سار عليها الإنسان, تشهد له او عليه أنه عمل فيها صالحا او طالحا .
الشاهد الثامن: كتابه الذي هو صحيفة أعماله:وما ذكر من الشهود كلها تقرر وتؤيد ما في صحيفة الأعمال التي كتبها الملائكة الكرام ، وهي تكون أكبر شاهد عليهم: فإما أن يكون كتابه صحيفة مرفوعة مطهرة للمؤمنين, فيستعد بعد هذا للارتفاع إلى اعلى عليين ولدخول الجنة ، أو كتاب مرقوم في سجين للفجار, ويدخلون به النار ويستعدون للذهاب إلى اسفل سافلين .
الموقف السادس: استرجاع حقوق الناس:
بعد ان يتم الحساب, يتبين لكل إنسان ماله وما عليه من حقوق الله تعالى وحقوق الناس, فتعادل بالحسنات والسيئات. ولكن بالنسبة لحقوق الناس ياتي موقف استيفاء حقوقهم كل إنسان ياخذ حقه ممن ظلمه وغصب حقه وآذاه واعتدى عليه, فتؤخذ من حسنات الظالم وتعطى للمظلوم . وإذا لم تكن للظالم حسنات, تؤخذ من ذنوب المظلوم وتضاف إلى ذنوب الظالم . وإن لم يكن للمظلوم ذنوب, يحط من الظالم بما يرتفع به المظلوم. كما ان الله تعالى يفتدي ذنوب عباده الصالحين بحسنات وهدايا من عنده, لكي لا ينال الكافر من المؤمن في بعض الحالات .
الموقف السابع: الميزان:
بعد أن يصفى الإنسان ماله وما عليه بحساب دقيق كما عرفت حتى مثقال الذرة من الأعمال الصالحة أو الطالحة , يأتى به إلى ميزان الأعمال في هذا الموقف العصيب حيث يقرر المصير النهائي للإنسان، فتوزن وتوضع الحسنات في جانب والسيئات في جانب آخر, حيث توضع الموازين القسط والعدل فلا ظلم اليوم كل إنسان يوفى حسابه ، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ويلتحق بالمفلحين في جنة عالية قطوفها دانية ، وأما من خفت موازينه وحسناته وثقلت سيئاته , فأمه هاوية وهو من الذين خسروا أنفسهم فهو كالح وتلفح وجهه النار.
الموقف الثامن: الشفاعة:
شفاعة نبينا( ص) متوقعة، بل واقعة لا ريب فيها, لقوله تعالى:{ واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}. وصاحب الكبيرة مؤمن لتصديقه بالله وبرسوله( ص). وإقراره بما جاء به النبي, هو الإيمان، إذ الإيمان في اللغة هو التصديق وهو هنا كذلك، وإذا أمر بالاستغفار لم يتركه لعصمته(ص)، واستغفاره لأمته مقبول تحصيلا لمرضاته, لقوله تعالى:{ ولسوف يعطيك ربك فترضى}، هذا مع قوله( ص):" ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
والشفاعة كرامة من الله تعالى لاوليائه ولمن ارتضى الله دينهم من المؤمنين, فأول شفيع للأمة هو النبي(ص) ويتبعه بالكرامة آله الأطهار, ويتبعهم محبيهم وأوليائهم وبالخصوص العلماء والشهداء منهم , حيث ياذن الله تعالى لهم بالشفاعة لمواليهم ومحبيهم لمن ارتكب كبيرة ولم يتب منها, ويكون دخوله النار بسببها بعد أن كان مؤمنا خالصا ولكن خلط عمل صالح مع عمل سيئ ولم تفي حسناته بسيئاته ، فتتداركه رحمة الله , فيأذن للنبي وآله ومحبيهم لتبين كرامتهم وفضلهم فيشفعون فيه ويخلصونه من الذهاب إلى النار.
وعلى هذا فالشفاعة اخر موقف من مواقف القيامة قبل الذهاب للجنة أو النار، وبعض تتداركه شفاعة النبي(ص) بعد دخول النار حسب ذنبه الذي لابد أن يدخل به النار ولم تصح به الشفاعة في يوم القيامة بل بعد دخول النار ولو بمئات السنين من دخول النار.
الموقف التاسع: الصراط:
وهو الطريق والجسر الذي يجب سلوكه لدخول الجنة وهو ممتد على النار, فيسير عليه الناس فمنهم من يسقط في النار بأول خطوة ، ومنهم من يجوزه اسرع من البرق الخاطف, كل حسب عمله। والمؤمن الذي يسير على الصراط ببطىء تخاطبه النار جزني يا مؤمن فإن نورك أطفأ ناري, ولا يحترق بلهيبها . وإن تأخر من دخول الجنة فترة قد يعتد بها ويسبقه بالدخول المخلصون حتى يغيرهم النعيم ولذيذ عيش الجنة .وأعلم أن الصراط في الدنيا, هو إتباع نبينا وآله, لانهم هم الذين انعم الله تعالى عليهم بالطهارة بآية التطهير, ونفى عنهم الكذب بآية المباهلة , وامر الله تعالى بحبهم واتباعهم بآية القربى .
الموقف العاشر: المواقف الخاصة للنبي وآله:
بعد ما عرفت دور النبي وآله في جميع مواقف القيامة, وما كرمهم الله تعالى من الحوض والشهادة في الحساب والشفاعة, توجد لهم مواقف أخرى مشهودة في يوم القيامة وهي خاصة بهم, وهي من كرامات الله تعالى عليهم, والمهم منها موقفان:
الأول: لواء الحمد:
بعد ما يأمر الله بالناس للمسير على الصراط لكي يستقروا إما في الجنة أوفي النار، فالإمام لكل السائرين إلى الجنة من جميع الأنبياء والأمم, هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ويكون جميع الانبياء ومن صدقهم وكذلك أتباع النبي ومحبيه, جماعة واحدة يتقدمهم النبي للمسير إلى الجنة وهو أول من يدخلها, ثم الاقرب منه منزلة فالأقرب ।وفي أول المسير يعطي الله للنبي كرامة له , لواء وراية من نور إسمه " لواء الحمد" ليقود المؤمنين إلى الجنة, فيدفع هذا اللواء لحامل لواء دينه في جميع مواقف الدنيا ليحمله في الآخرة ايضاً, فيعطي لواء الحمد هذا للإمام علي(ع) ليكون أمام الناس ليتبعوه إلى الجنة, ويحف به آله الأطهار والأنبياء ومحبيهم, ثم يتبعهم تابعيهم الأقرب منزلة منهم فالأقرب, فيسيرون في موكب النور إلى الجنة يتقدمهم النبي ثم الوصي, وهذا يشبه موقف الورود على الحوض كما عرف في أوائل مواقف القيامة بعد الحشر.
الثاني: موقف الأعراف:
عندما يسير النبي(ص) في موكب النور ويتبعه آله والأنبياء ومحبيه إلى الجنة , يشرفون على من سقط في النار بأول خطوة وهم اشد معاديهم ومن حرفوا ومنعوا الناس من إتباع الحق، فتدور بينهم محاورة , ويعرف أئمة الحق وهم النبي وآله والانبياء أشد اعدائهم بسيماهم وينظرون إليهم في النار, كما أن أصحاب النار ينظرون لموكب النور ويعرفون أئمة الحق، فتتم فرحة النبي وآله والأنبياء بهلاك أعدائهم وتزيد حسرة اعدائهم بحيث يرون موكب نور يتقدمه لواء الحمد ليدخل الجنة.
الركن السادس: دار القرار الجنة أم النار:
البحث الأول: وصف الجنة وأهلها:
الجنة مخلوقة وموجودة , وذلك لقوله تعالى في صفتها:{ أعدت للمتقين}, وكل معدود موجود, فالجنة موجودة . ولقوله تعالى:{ أكلها دائم وظلها }. وحمل دوام أكلها وظلها على دوامها بعد وجودها ودخول المكلفين لها.
للجنة ثمانية أبواب يدخل منها الأنبياء والصديقون والشهداء والمتقون والذين عملوا صالحاً من المؤمنين حسب منازلهم ودرجاتهم ، فبعد أن يصل موكب النور ويجتازون الصراط, تفتح لهم أبواب الجنة يستقبلهم رضوان خازن الجنة مع الملائكة, ويرحبون بهم ويقولون لهم: سلامٌ عليكم طبتم فأدخلوها بما كنتم تعملون . فيدخلون إلى منازلهم لكل منهم مقامه المعد له, خالدا فيه لا ينقطع نعيمه ولا يمنع منه ابدا, ولا تعب ولا صخب ولا ظل ولا حرور ولا مرض ولا لغو ولا تأثيم ولا خوف ولا حزن ولا مزاحمة, ولا أي شيء مما ينغص حياتهم فيرثون الجنة ملك دائم لهم, حيث أن لكل واحد منهم مملكة عظيمة لا تحد بحدود الدنيا ولا توصف بأوصافها, حيث منازل الجنة كلها جمال يبهج القلب, وحسن يفرح الروح وبهاء يتلألأ, فتحل الروح وتستقر خالدة في مملكته الجديدة راضية مرضية .
المؤمن بعد أن يدخل الجنة يسقى ماء طهورا يطهره من كل منقصة ، ويحصل على علم اليقين وعلى شبع لا جوع معه وشراب لا عطش بعده ، ويحصل على حسن الصورة وجمال المنظر، ويتزين بأجمل وأحلى الملابس والحلل، فتطوف الملائكة بالمؤمن في منازله حيث يرى في كل منزل ما تلذ به الأعين وتفرح به القلوب وتبتهج, فيختار واحد منها وكله سرور يطيب به قلبه وفرح يظهر على وجهه. فيجد المؤمن في منزله كل كرامة ومن الجمال ما لا يخطر على قلب بشر, و في أعجب وأكمل وأحلى وأجلى صورة مما لا يمكن أن يحيط به وصف مهما كثر. وهنا نذكر لك منه مختصر:
يجلس المؤمن وهو متكئ على الأرائك والوسائد من إستبرق الحرير والديباج, ومع زوجاته من الحور العين, وهن كاللؤلؤ المكنون في الصفاء مع كمال عقلهن وعلو قدرهن, مع جمال الشكل البديع كالياقوت والمرجان في صفاء اللون وبهاء الشكل يتلألأ من جمالهن النور، وعلى وجوههن آثار السرور وباحلى زينة فرحات بزوجهن المؤمن ولا ينظرن إلى غيره معجبات به ، وهكذا الزوجات المؤمنات مع أزواجهن بل هن أجمل من الحور العين، ويطوف عليهم الولدان المخلدون في خدمتهم وهم أحداث جميلي الصورة ، بأكواب وأباريق ويسقوهم شراب غير آسن ولا يتغير طعمه لذة للشاربين, لا يذهب العقل بل يعينه على استشعار اللذة ويفرح القلب ويسر النفس، وتحيط بهم الأنهار والعيون والأشجار فيها فواكه قطوفها دانية وأمامهم سفرة فيها من الطعام من كل شيء ولحم طير مما يشتهون، يتحدث هذا الجمع اللغة العربية بفصاحة بأحسن حديث لا لغو فيه ولاتأثيم من كذب وخداع وغش ولؤم وما شابهه والعياذ بالله .
البحث الثاني: وصف النار وأهلها:
النار مخلوقة وموجودة , وذلك لقوله تعالى في صفتها:{ أعدت للكافرين}, وكل معدود موجود, فالنار موجودة . وللنار سبعة أبواب وهي تعببر عن الدركات, يردها الفجار والمجرمين والكفار والمنافقين وكل مناع للخير معتدي أثيم, وهم في أشد عطش وظمأ ، تسوقهم الملائكة بالزجر وتضرب وجوههم والأدبار, ويقولون لهم لا مرحبا بكم أدخلوا النار بما كنتم تعملون، وعندما تراهم النار يكون لها زفير وشهيق شديد, ويتلقفهم شظاها قبل أن يسقط كل مجرم في دركه ومكانه وهو مصفد بالأغلال والقيود مع قرين شيطان قبيح الصورة والمنظر، في مكان ضيق بحيث يتواطئون ويدوس أحدهم على الآخر، و تلفح وجوههم النار وتكويهم حجارتها, وهم يدعون بالويل والثبور بالصياح في صوت أقبح من صوت الحمير، خالدين في النار في أضيق مكان متصور لا يخفف عنهم العذاب ولا يخرجون منها، إلا ممن تناله الشفاعة من المؤمنين الذين لم تفي حسناتهم بسيئاتهم, ولم تتداركهم الشفاعة في أخر موقف من مواقف القيامة لقصور فيهم, فينالوها بعد عذاب قد يطول مئات السنين .لا مجلس ولا كرامة لأهل النار, بل العذاب الشديد والصغار والذل والهوان, فمكانهم نار شديدة أقلها حرارة سبعين ضعف من نار دنيانا, تشوي الوجوه والجلود, كلما شوي جلدهم جدد, فهم في عذاب دائم قرناء شياطينهم لا يأذن لهم فيتكلمون إلا بعض المحاورات, يخاطبون مالك خازن النار فيقولون: يا مالك فليقض علينا ربك. وبعض المحاورات في فترة محدودة مع أهل الجنة, يتحسرون فيها عندما يروهم في النعيم المقيم وهم كانوا يسخرون منهم في الدنيا، وإلا فأهل النار صم بكم عمي، وأين لهم محل للكلام والنظر والسمع وهم مشغولون بألم الإحتراق الشديد، لا يرون سوى قرينهم القبيح المنظر وهو شيطانهم في الدنيا يحشر معهم ، وأصوات كنهيق الحمير .وأما طعامهم فهو الزقوم من شجر يخرج في اصل النار, ثمره كأنه رؤوس الشياطين يأكله مجبور ولا يستسيغه، وشرابهم الحميم وهو ماء يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء , هذا مع السلاسل والأغلال في اعناقهم .نعوذ بالله العزيز الحكيم من النار وأهلها في الدنيا والآخرة , وأستغفر الله وأتوب إليه.
الهي بحق رسولك وآله الطيبين الطاهرين نجني من النار.

الأصل الرابع للدين:الإمامة

المبحث الأول: في الإمامة والإمام:
أولا: عقيدتنا في الإمامة:
نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها ، ولا يجوز فيها تقليد أحد من الناس مهما عظم وكبر، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة ..
ونعتقد أن الإمامة لطف إلاهي كالنبوة ، واجبة عقلا, وذلك لإمكان خلو الزمان من نبي حي, بخلاف الإمام . فالإمامة لطف عام, والنبوة لطف خاص .
فلا بد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه, له ما للنبي من الولاية العامة على الناس, لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل فيهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم . وعلى هذا، فالإمامة استمرار للنبوة !
ومن عرف عوائد الدهماء ، وجرب قواعد السياسة، علم ضرورة أن الناس إذا كان لهم رئيس مطاع مرشد فيما بينهم, يردع الظالم عن ظلمه والباغي عن بغيه، وينتصف للمظلوم من ظالمه، ومع ذلك يحملهم على القواعد العقلية والوظائف الدينية ، ويحجزهم عن المفاسد الموجبة لاختلال النظام في أمور معاشهم ، وعن القبائح الموجبة للوبال في معادهم ، بحيث يخاف كل واحد مؤاخذته على ذلك ، كانوا مع ذلك إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد !
فالإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا, لشخص إنساني نيابة عن النبي(ص) يكون:
أولا: معينا ومعهودا من قبل الله تعالى ورسوله , لا أي شخص كان .
وثانيا: لا يجوز أن يكون مستحقها أكثر من واحد في عصر واحد .
والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء, هو نفسه يوجب أيضا نصب الإمام بعد الرسول. فلذلك نقول: إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي, أو لسان الإمام الذي قبله, وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس، فليس لهم إذا شاءوا أن يعينوا إماما لهم عينوه ، وإذا شاءوا أن يتركوا تعيينه تركوه ، ليصح لهم البقاء بلا إمام ، بل(من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية), على ما ثبت ذلك عن الرسول الأعظم(ص) بالحديث المستفيض .
وعليه, فلا يجوز أن يخلو عصر من العصور من إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى، سواء أبى البشر أم لم يأبوا ، وسواء ناصروه أم لم يناصروه ، أطاعوه أم لم يطيعوه ، وسواء كان حاضرا أم غائبا عن أعين الناس، إذ كما يصح أن يغيب النبي كغيبته في الغار والشعب, صح أن يغيب الإمام، ولا فرق في حكم العقل بين طول الغيبة وقصرها .
قال الله تعالى:( ولكل قوم هاد ) ، وقال:( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) .

حديث هشام بن الحكم:(القلب ترجع له الحواس, والإمام يرجع إليه الناس):عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد الله(ع) جماعة من أصحابه, منهم حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام ابن سالم، والطيار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب, فقال أبو عبد الله(ع):" يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته ؟ فقال هشام: يا ابن رسول الله إني أجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك . فقال أبو عبد الله: إذا أمرتكم بشيء فافعلوا ". قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة, فعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة, فأتيت مسجد البصرة, فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متزر بها من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت: أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة ؟ فقال لي: نعم . فقلت له: ألك عين؟ فقال: يا بني أي شي هذا من السؤال ؟ وشئ تراه, كيف تسأل عنه ؟ فقلت: هكذا مسألتي . فقال: يا بني سل, وان كانت مسألتك حمقاء . قلت: اجبني فيه . قال لي: سل . قلت: ألك عين ؟ قال: نعم . قلت: فما تصنع بها ؟ قال: أرى بها الألوان والأشخاص . قلت: فلك انف ؟ قال: نعم . قلت: فما تصنع به ؟ قال: أشم به الرائحة . قلت: ألك فم ؟ قال: نعم ، قلت: فما تصنع به ؟ قال: أذوق به الطعم . قلت: فلك أذن ؟ قال: نعم ، قلت: فما تصنع بها ؟ قال: أسمع بها الصوت . قلت: ألك قلب ؟ قال: نعم . قلت: فما تصنع به ؟ قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح والحواس . قلت: أو ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب ؟ فقال: لا . قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟ قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ, شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك . قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح ؟ قال: نعم . قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح ؟ قال: نعم . فقلت له: يا أبا مروان, فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك ؟ ! قال: فسكت ولم يقل لي شيئا. ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام بن الحكم ؟ فقلت: لا ، قال: أمن جلسائه ؟ قلت: لا ، قال: فمن أين أنت ؟ قال: قلت: من أهل الكوفة ، قال: فأنت إذا هو، ثم ضمني إليه، وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت. قال الراوي: فضحك أبو عبد الله(ع) وقال: يا هشام من علمك هذا ؟ قال: شئ أخذته منك وألفته . فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى".

حديث الشامي:( لا يرفع الاختلاف, إلا بالإمام ):عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله(ع) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض, وقد جئت لمناظرة أصحابك فقال أبو عبد الله(ع):" كلامك من كلام رسول الله(ص) أو من عندك ؟ فقال: من كلام رسول الله(ص) ومن عندي فقال أبو عبد الله: فأنت إذا شريك رسول الله ؟ قال: لا . قال: فسمعت الوحي عن الله عز وجل يخبرك ؟ قال: لا . قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله(ص) ؟ قال: لا . فالتفت أبو عبد الله(ع) إليَّ, فقال:" يا يونس بن يعقوب, هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم . ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته . قال يونس: فيالها من حسرة . فقلت: جعلت فداك أني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام, يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله . فقال ابو عبد الله(ع): إنما قلت: فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون . ثم قال لي: اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فادخله . قال: فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام, وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام، وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما، وكان قد تعلم الكلام من على بن الحسين(ع), فلما استقر بنا المجلس, وكان أبو عبد الله(ع) قبل الحج يستقر أياما في جبل في طرف الحرم في فازة له( خيمته) مضروبة, فال: فأخرج أبو عبد الله رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب: فقال: هشام ورب الكعبة . قال: فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له . قال: فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من هو اكبر سنا منه، قال: فوسع له ابو عبد الله(ع). وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه و يده . ثم قال: يا حمران كلم الرجل، فكلمه فظهر عليه حمران، ثم قال: يا طاقي كلمه فكلمه فظهر عليه الأحول . ثم قال: يا هشام بن سالم كلمه، فتعارفا، ثم قال أبو عبد الله(ع) لقيس الماصر: كلمه . فكلمه . فأقبل أبو عبد الله(ع) يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي . فقال للشامي: كلم هذا الغلام - يعنى هشام بن الحكم - . فقال: نعم ، فقال لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا . فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال للشامي: يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم ؟ فقال الشامي: بل ربي انظر لخلقه . قال: ففعل بنظره لهم ماذا ؟ قال، أقام لهم حجة ودليلا كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألفهم و يقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم .قال: فمن هو؟ قال: رسول الله(ص) . قال هشام: فبعد رسول الله(ص) ؟ قال: الكتاب والسنة . قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا ؟ قال الشامي: نعم . قال: فلم اختلفنا أنا و أنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك ؟ قال: فسكت الشامي . فقال أبو عبد الله(ع) للشامي: ما لك لا تتكلم ؟ قال الشامي: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لانهما يحتملان الوجوه ، وان قلت: قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق, فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة , إلا أن لي عليه هذه الحجة . فقال أبو عبد الله(ع): سله تجده مليا . فقال الشامي: يا هذا من انظر للخلق أربهم أو أنفسهم ؟ فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم . فقال الشامي: فهل أقام من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم ؟ قال هشام: في وقت رسول الله(ص) أو الساعة ؟ قال الشامي: في وقت رسول الله(ص) والساعة من ؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشد إليه الرحال، ويخبرنا بأخبار السماء والأرض وراثة عن أب عن جد . قال الشامي: فكيف لي أن اعلم ذلك ؟ قال هشام: سله عما بدا لك . قال الشامي، قطعت عذري فعلي السؤال . فقال أبو عبد الله(ع) يا شامي: أخبرك كيف كان سفرك ؟ وكيف كان طريقك ؟ كان كذا وكذا . فاقبل الشامي يقول: صدقت، أسلمت لله الساعة . فقال أبو عبد الله(ع): بل آمنت بالله الساعة، إن الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون، والإيمان عليه يثابون. فقال الشامي: صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله(ص) وانك وصى الأوصياء . ثم التفت أبو عبد الله(ع) إلى حمران، فقال: تجري الكلام على الأثر فتصيب. والتفت إلى هشام بن سالم، فقال: تريد الأثر ولا تعرفه. ثم التفت إلى الأحول، فقال: قياس رواغ تكسر باطلا بباطل إلا أن باطلك اظهر. ثم التفت إلى قيس بن الماصر، فقال: تتكلم واقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله(ص) أبعد ما تكون منه تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل، أنت والأحول قفازان حاذقان . قال يونس: فظننت والله انه يقول لهشام قريبا مما قال لهما. ثم قال: يا هشام لا تكاد تقع، تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت مثلك فليكلم الناس، فاتق الزلة، والشفاعة من ورائها إن شاء الله ".

ثانيا: عقيدتنا في الأئمة:
لا نعتقد في أئمتنا ما يعتقده الغلاة والحلوليون( كبرت كلمة تخرج من أفواههم) . بل عقديتنا الخاصة أنهم بشر مثلنا ، لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وإنما هم عباد مكرمون اختصهم الله تعالى بكرامته وحباهم بولايته ، إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفة وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به . وبهذا استحقوا أن يكونوا أئمة وهداة ومرجعا بعد النبي(ص) في كل ما يعود للناس من أحكام وحكم ، وما يرجع للدين من بيان وتشريع، وما يختص بالقرآن من تفسير وتأويل .
قال إمامنا الصادق(ع):"ما جاءكم عنا مما يجوز أن يكون في المخلوقين, ولم تعلموه ولم تفهموه , فلا تجحدوه وردوه إلينا، وما جاءكم عنا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين, فأجحدوه , ولا تردوه إلينا".
ونعتقد أن الأئمة(ع) هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم ، وأنهم الشهداء على الناس، وأنهم أبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه ، وأنهم عيبة علمه وتراجمة وحيه وأركان توحيده وخزان معرفته، ولذا كانوا أمانا لأهل الأرض, كما أن النجوم أمان لأهل السماء ,على حد تعبيره(ص) . وكذلك على حد قوله(ص):" أن مثلهم في هذه الأمة كسفينة نوح, من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى". وأنهم{عباد الله المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}. وأنهم الذين{ أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا}.
بل نعتقد أن أمرهم أمر الله تعالى ونهيهم نهيه ، وطاعتهم طاعته ومعصيتهم معصيته ، ووليهم وليه وعدوهم عدوه ، ولا يجوز الرد عليهم ، والراد عليهم كالراد على الرسول, والراد على الرسول كالراد على الله تعالى . فيجب التسليم لهم والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم .
ولهذا نعتقد أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير مائهم ولا يصح أخذها إلا منهم ، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم ، ولا يطمئن إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم .
إنهم صلوات الله عليهم, كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات ، والإدعاءات والمنازعات .
قال الله تعالى( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) الشورى٢٣
ونعتقد أنه زيادة على وجوب التمسك بآل البيت ، يجب على كل مسلم أن يدين بحبهم ومودتهم ، لأنه تعالى في هذه الآية المذكورة حصر أن المسئول عليه الناس, هو مودة قربى رسول الله . وقد تواتر عن النبي(ص) أن حبهم علامة الإيمان، وأن بغضهم علامة النفاق. وأن من أحبهم أحب الله ورسوله ، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله . بل حبهم فرض من ضروريات الدين الاسلامي التي لا تقبل الجدل والشك.. والمنكر لأصل الإمامة يعد في حكم المنكر لأصل الرسالة ، وإن أقر في ظاهر الحال بالشهادتين. ولأجل هذا كان بغض آل محمد من علامات النفاق وحبهم من علامات الإيمان. ولأجله أيضا كان بغضهم بغضا لله ولرسوله .
ولا شك أنه تعالى لم يفرض حبهم ومودتهم إلا لأنهم أهل للحب والولاء ، وذلك من ناحية قربهم إليه سبحانه ومنزلتهم عنده ، وطهارتهم من الشرك والمعاصي, ومن كل ما يبعد عن دار كرامته وساحة رضاه . ولا يمكن أن نتصور أنه تعالى يفرض حب من يرتكب المعاصي أو لا يطيعه حق طاعته ، فإنه سبحانه ليس له قرابة ولا صداقة مع أحد وليس عنده الناس بالنسبة إليه إلا عبيدا مخلوقين على حد سواء ، وإنما أكرمهم عنده أتقاهم . فمن أوجب حبه على الناس كلهم, لا بد أن يكون أتقاهم وأفضلهم جميعا ، وإلا كان غيره أولى بذلك الحب وأجدر، أو أنه تعالى يفضل بعضا على بعض في وجوب الحب والولاء عبثا ولهوا ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
ثالثا: عقيدتنا في عدد الأئمة:
قال رسول الله(ص):" لا يزال أمر الناس ماضيا، ما وليهم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش".
وفي رواية:" لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش".
نعتقد أن الأئمة الذين لهم صفة الإمامة الحقة, وهم مرجعنا في الأحكام الشرعية المنصوص عليهم بالإمامة, اثنا عشر إماما، نص عليهم النبي(ص) جميعا بأسمائهم . ثم نص المتقدم منهم على المتأخر، على النحو الآتي:
1 - أبو الحسن علي أبي طالب( المرتضى) المتولد سنة ٢٣ قبل الهجرة والمقتول سنة ٤٠ بعدها .
2 - أبو محمد الحسن بن علي" الزكي"( ٢ - ٥٠ )
3 - أبو عبد الله الحسين بن علي" سيد الشهداء " ( ٣ - ٦١ )
4 - أبو محمد علي بن الحسين " زين العابدين " ( ٣٨ - ٩٥ )
5 - أبو جعفر محمد بن علي " الباقر " ( ٥٧ - ١١٤ )
6 - أبو عبد الله جعفر بن محمد " الصادق " ( ٨٣ - ١٤٨ )
7 - أبو إبراهيم موسى بن جعفر " الكاظم " ( ١٢٨ - ١٨٣ )
8 - أبو الحسن علي بن موسى " الرضا " ( ١٤٨ - ٢٠٣ )
9 - أبو جعفر محمد بن علي " الجواد " ( ١٩٥ - ٢٢٠ )
10 - أبو الحسن علي بن محمد " الهادي " ( ٢١٢ - ٢٥٤ )
11 - أبو محمد الحسن بن علي " العسكري " ( ٢٣٢ - ٢٦٠ )
12 - أبو القاسم محمد بن الحسن " المهدي " ( ٢٥٦ - . . . ) وهو الحجة في عصرنا الغائب المنتظر، عجل الله فرجه وسهل مخرجه ، ليملأ الأرض عدلا وقسطا بعد ما ملئت ظلما وجورا .
عن سلمان(رض) قال: دخلت على النبي(ص) فإذا الحسين(ع) على فخذيه ، وهو يقبل خديه ، ويلثم فاه ، ويقول:" أنت سيد ابن سيد أخو سيد ، وأنت إمام ابن إمام أخو إمام ، وأنت حجة ابن حجة أخو حجة ، أبو حجج تسعة ، تاسعهم قائمهم المهدي".
وعن جابر الأنصاري: قال رسول الله(ص):" يا جابر! إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي: أولهم علي، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف بالباقر، ستدركه يا جابر، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم القائم، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان". قال جابر: فقلت: يا رسول الله ! فهل للناس الانتفاع به في غيبته ؟ فقال:" أي والذي بعثني بالنبوة ، إنهم يستيضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس، وإن سترها سحاب، هذا من مكنون سر الله ، ومخزون علم الله ، فاكتمه إلا عن أهله".
المبحث الثاني: شرائط الإمام:
أولا: في وجوب عصمة الإمام:
نعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من الصغر إلى الموت، عمدا وسهوا . كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان ، لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه, حالهم في ذلك حال النبي(ص) . والدليل الذي اقتضانا أن نعقتد بعصمة الأنبياء, هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة ، بلا فرق .
فالإمام يجب أن يكون معصوما وذلك:
أولا: لأن الحاجة الداعية إلى الإمام, هي ردع الظالم عن ظلمه والانتصاف للمظلوم منه ، وحمل الرعية على ما فيه مصالحهم وردعهم عما فيه مفاسدهم، وإقامة الحدود والفرائض والتعزيرات.. فلو جاز أن يكون غير معصوم, لانتفت هذه الفوائد, ولافتقر هو إلى إمام يردعه عن خطئه ، وللزم التسلسل من عدم تناهي الأئمة , وهو باطل .
ثانيا: لو لم يكن معصوما وفعل المعصية, هل يجب الإنكار عليه أم لا ؟ فإن وجب, سقط محله من القلوب ويصير مأمورا بعد أن كان آمرا، وتنتفي الفائدة المطلوبة من نصبه، وإن لم يجب, سقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو محال .
الثالث: لو لم يكن معصوما, لما أمن على الشرع من الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل. لأنه حافظ للشرع , وكل من كان كذلك وجب أن يكون معصوما.
ثانيا: في أن الإمام هو أفضل الرعية:
نعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون أفضل أهل زمانه في صفات الكمال, من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ، ومن تدبير وعقل وحكمة.. الخ, فهو مقدم على الكل، فلو كان فيهم من هو أفضل منه, لزم تقديم المفضول على الفاضل وهو قبيح عقلا وسمعا !
قال تعالى:" أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون".
وقال:" هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب".
فكيف ينقاد الأعلم ، الأزهد ، الأشرف ، للأدون في ذلك كله ؟ !
أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله. وإذا استجد شئ لا بد أن يعلمه من طريق الالهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقي، لا يخطأ فيه ولا يشتبه ولا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقلية ولا إلى تلقينات المعلمين .
لقد ثبت في الأبحاث النفسية أن كل إنسان له ساعات في حياته قد يعلم فيها ببعض الأشياء من طريق الحدس الذي هو فرع من الالهام ، بسبب ما أودع الله تعالى فيه من قوة على ذلك . وهذه القوة تختلف شدة وضعفا وزيادة ونقصانا في البشر باختلاف أفرادهم . فيطفر ذهن الانسان في تلك الساعة إلى المعرفة من دون أن يحتاج إلى التفكير وترتيب المقدمات والبراهين أو تلقين المعلمين . ويجد كل إنسان من نفسه ذلك في فرص كثيرة في حياته ، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يبلغ الانسان من قوته الإلهامية أعلى الدرجات وأكملها ، وهذا أمر قرره الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون . فلذلك ، نقول - وهو ممكن في حد ذاته - أن قوة الالهام عند الإمام التي تسمى بالقوة القدسية تبلغ الكمال في أعلى درجاته ، فيكون في صفاء نفسه القدسية على استعداد لتلقي المعلومات في كل وقت وفي كل حالة ، فمتى توجه إلى شئ من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوة القدسية الإلهامية بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ولا تلقين معلم . وتنجلي في نفسه المعلومات كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية لا غطش فيها ولا إبهام .
ويبدو واضحا هذا الأمر في تاريخ النبي والأئمة عليهم السلام ، فإنهم لم يتربوا على يد أحد ، ولم يتعلموا على يد معلم ، من مبدأ طفولتهم إلى سن الرشد ، حتى القراءة والكتابة ، ولم يثبت عن أحدهم أنه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شئ من الأشياء ، مع ما لهم من منزلة علمية لا تجارى . وما سئلوا عن شئ إلا أجابوا عليه في وقته ، ولم تمر على ألسنتهم كلمة(لا أدري) ، ولا تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك . في حين أنك لا تجد شخصا مترجما له من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلا ذكرت في ترجمته تربيته وتلمذته على غيره وأخذه الرواية أو العلم على المعروفين وتوقفه في بعض المسائل أو شكه في كثير من المعلومات ، كعادة البشر في كل عصر ومصر .
ثالثا: في أن الإمامة بالنص:
نعتقد أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان رسوله أو لسان الإمام المنصوب بالنص, إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده ، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق. وليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه الله هاديا ومرشدا لعامة البشر، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه، فالشخص الذي له من نفسه القدسية والإستعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة, لا يعرف إلا بتعريف الله ولا يعين إلا بتعيينه, فالعصمة من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلا الله تعالى, ولا يحصل العلم بها في أي شخص هي، إلا بإعلام عالم الغيب وذلك بأمرين:
أحدهــما: إعلامه بواسطة معصوم كالنبي(ص), فيخبرنا بعصمة الإمام وتعيينه .
وثانيهما: إظهار المعجزة على يده الدالة على صدقه في ادعائه الإمامة .
المبحث الثالث: الإمام بعد رسول الله(ص) هو علي(ع):
نعتقد أن النبي(ص) نص على خليفته والإمام في البرية من بعده ، فعين ابن عمه علي بن أبي طالب(ع), ونصبه وأخذ له البيعة بإمرة المؤمنين. ونستدل على أحقيته(ع) لهذا المنصب الإلاهي:
الإستدلال الأول: بدليل العقل:
أولا: الإمام يجب أن يكون معصوما, ولا أحد من غير علي(ع) ممن ادعيت له الإمامة, بمعصوم إجماعا, فتعين أن يكون هو الإمام .
ثانيا: شرط الإمام أن لا يسبق منه معصية على ما تقدم ، والمشايخ قبل الإسلام كانوا يعبدون الأصنام ، فلا يكونوا أئمة ، فتعين الإمام علي(ع).
ثالثا: الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه . وغير علي من الثلاثة ليس منصوصا عليه ، فلا يكون إماما .
رابعا: الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته، لقبح تقديم المفضول على الفاضل, وغير علي لم يكن كذلك ، فتعين هو(ع).
خامسا: أنه(ع) كان أعلم وأزهد وأعبد وأشجع الناس بعد رسول الله(ص) فيكون هو الإمام . والتاريخ يروي لنا كيف كان(ع) شديد الحدس والذكاء والحرص على التعلم ، وأنه دائم المصاحبة للرسول(ص) ، الذي كان شديد المحبة له والحرص على تعليمه. وكان الخلفاء وأكابر الصحابة والتابعين يرجعون إليه في الوقائع التي تعرض لهم ويأخذون بقوله, ولم يرجع هو إلى أحد منهم .. وأرباب الكلام من الإمامية والمعتزلة والأشاعرة , وأرباب الفنون في العلوم كلها, وأصحاب التفسير وأرباب الفقه يرجعون كلهم إليه , وكان( ص) يقول في حقه:( أقضاكم علي) ، والقضاء يستدعي العلم . وكان(ع) يقول: ( لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، والله ما من آية نزلت في ليل أو نهار أو سهل أو جبل إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وفي أي شئ نزلت ). وذلك يدل على إحاطته(ع) بمجموع العلوم الإلهية, وإذا كان أعلم كان متعينا للإمامة وهو المطلوب . ولو لم يكن إلا كلامه(ع) في نهج البلاغة ، الذي قرر فيه المباحث الإلهية في التوحيد والعدل، والقضاء والقدر، وكيفية السلوك ومراتب المعارف الحقية ، وقواعد الخطابة وقوانين الفصاحة والبلاغة ، وغير ذلك من الفنون لكان فيه غنية للمعتبر وعبرة للمتفكر.
ثم أنه(ع) كان أزهد الناس بعد رسول الله(ص) فيكون هو الإمام ، لأن الأزهد أفضل ، ولم يعرف له أحد ورطة في فعل دنيوي حتى أنه كان يختم أوعية خبزه فقيل له في ذلك ، فقال أخاف أن يضع فيه أحد ولدي أداما, ويكفيك بزهده أنه طلق الدنيا ثلاثا. وكان يؤثر بقوته وقوت عياله ، المسكين واليتيم والأسير, حتى نزل في ذلك قرآن على أفضليته وعصمته (الانسان8) .
سادسا: أنه(ع) ادعى الإمامة وظهر المعجزة على يده ، وكل من كان كذلك فهو صادق في دعواه. أما أنه ادعى الإمامة ، فظاهر ومشهور في كتب السير والتواريخ حكاية أقواله وشكايته ومخاصماته . وأما ظهور المعجزة فكثيرة :
منها : قلع باب خيبر.
ومنها : مخاطبة الثعبان على منبر الكوفة.
ومنها : رفع الصخرة العظيمة عن فم القليب لما عجز العسكر عن قلعها .
ومنها : رد الشمس حتى عادت إلى موضعها في الفلك وغير ذلك مما لا يحصى
وأما أن كل من كان كذلك فهو صادق, فلما تقدم في النبوة .
سابعا: أن النبي(ص) إما أن يكون قد نص على إمام بعده , أو لا: الثاني باطل على جهتين:
الأولى: أن النص على إمام واجب تكميلا للدين وتعيينا لحافظه , فلو أخل به رسول الله( ص) لزم إخلاله بالواجب .
الثانية : أنه(ص) لما كان من شفقته ورأفته بالمسلمين ورعايته لمصالحهم, بحيث علمهم حتى مواقع الاستنجاء والجنابة وغير ذلك، فيستحيل في حكمته وعصمته أن لا يعين لهم من يرجعون إليه في وقائعهم وسد عوراتهم ولم شعثهم، فتعين الأول, من أنه قد نص .
ولم يدع النص, غير علي(ع) وأبي بكر إجماعا. بقي أن يكون المنصوص عليه إما عليا(ع ) أو أبا بكر؟ والثاني باطل لوجوه :
الأول : أنه لو كان منصوصا عليه, لكان توقيف الأمر على البيعة معصية قادحة في إمامته .
الثاني : أنه لو كان منصوصا عليه لذكر ذلك وادعاه في حال بيعته أو بعدها أو قبلها، إذ لا عطر بعد عرس، لكنه لم يدع ذلك فلم يكن منصوصا عليه .
الثالث : أنه لو كان منصوصا عليه, لكانت استقالته من الخلافة في قوله:" أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم", من أعظم المعاصي . إذ هو رد على الله ورسوله(ص) فيكون قادحا في إمامته .
الرابع : أنه لو كان منصوصا عليه, لما أمره رسول الله(ص) بالخروج مع أسامة بن زيد ، فلو كان والحال هذه والإمام هو أبا بكر, لما أمره بالخروج ولعن المتخلف وأنكر عليه لما تخلف عنهم.
الخامس : أنه لا واحد من غير علي(ع) من الجماعة الذين أدعيت لهم الإمامة, يصلح لها, لأنهم كانوا ظلمة لتقدم كفرهم ، فلا ينالهم عهد الإمامة لقوله تعالى:(لا ينال عهدي الظالمين) . فتعين هو(عليه السلام), وهو المطلوب !
الإستدلال الثاني: بدليل القرآن الكريم:
الأول:{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} التوبة ٢
الثاني:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} المائدة ٥
الثالث:{ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } الأحزاب ٣٣
الرابع:{ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} الشورى ٢٣
الخامس:{ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } البقرة ٢٠٧
السادس:{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } فاطر ٣٢
السابع:{ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} البقرة ٣٧
الثامن:{ إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} البقرة ١٢٤
التاسع:{ سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج} المعارج ٣
العاشر:{ إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} الرعد ٧
الحادي عشر:{ والذي جاء بالصدق وصدق به أولائك هم المتقون } الزمر ٣٣
الثاني عشر:{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } البقرة ٢٧٤
الثالث عشر:{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } البينة ٧
الرابع عشر:{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} المجادلة ١٢
الخامس عشر:{ سلام على آل ياسين } الصافات ١٣٠ , عن ابن عباس: آل محمد(ص).
السادس عشر:{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر..} سورة الإنسان
السابع عشر:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} التوبة ١١٩
الثامن عشر:{ أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم } النساء ٥٩
التاسع عشر:{ وتعيها أذن واعية } الحاقة ٥
العشرون:{ فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } النحل ٤٣ , والأنبياء ٧
الواحد والعشرون:{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } التكاثر ٨
الثاني والعشرون:{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} طه ٨٢
الثالث والعشرون:{ وقفوهم إنهم مسؤولون} الصافات ٢٤
الرابع والعشرون:{ والسابقون السابقون أولئك المقربون} الواقعة ١٠
الخامس والعشرون:{ ومن عنده علم الكتاب } الرعد ٤٣ , هو الإمام علي عليه السلام .
السادس والعشرون:{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } فاطر ٣٢
السابع والعشرون:{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} الفتح ٢٩
الثامن والعشرون:{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } مريم ٩٦
التاسع والعشرون:{ أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق} الرعد ٣٠ , هو علي(ع) .
الثلاثون:{ كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري} النور٥٣
الواحد والثلاثون:{ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) النساء ٥٤
الثاني والثلاثون:{ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه ويعدلون} الأعراف ١٨١, قال علي(ع): "هم أنا وشيعتي".
الثالث والثلاثون:{ يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان} البقرة ٢٠٨
الرابع والثلاثون:{ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} السجدة ١٨ المؤمن علي(ع)، والفاسق الوليد .
الخامس والثلاثون:{ طوبى لهم وحسن مآب} الرعد ٢٩ , قال ابن سيرين: هي شجرة في الجنة، أصلها في حجرة علي، وليس في الجنة حجرة إلا وفيها غصن من أغصانها.
السادس والثلاثون:{ أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه} هود ١٧ روى الجمهور: أن "من كان على بينة من ربه ", رسول الله(ص)، و" الشاهد" علي(ع).
السابع والثلاثون:{ فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} آل عمران ٦١
الثامن والثلاثون:{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} المائدة ٦٧
التاسع والثلاثون:{ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} المائدة ٥٥
الأربعون:{ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب ٥٦
الواحد والأربعون:{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } الأحزاب ٢٢
الثاني والأربعون:{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} التوبة ١٩
الثالث والأربعون:{ مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} الرحمان ١٩
الرابع والأربعون:{ يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} النور ٣٦
الخامس والأربعون:{ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق ) الزمر: 32 هو من رد قول رسول الله(ص) في علي(ع).
السادس والأربعون:{ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) الحديد ١٩, قال(ص): الصديقون ثلاثة: حبيب النجار، مؤمن آل ياسين, قال: يا قوم اتبعوا المرسلين . وحزقيل، مؤمن آل فرعون، قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله . وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم ".
السابع والأربعون:{ ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون" الزخرف ٥٧ . قال رسول الله(ص) لعلي(عليه آلاف التحية والثناء):" إن فيك مثلا من عيسى، أحبه قوم فهلكوا فيه ، وأبغضه قوم فهلكوا فيه . فقال المنافقون: أما يرى له مثلا إلا عيسى؟ فنزلت هذه الآية .
الثامن والأربعون:{ عم يتساءلون عن النبأ العظيم } سورة النبأ . عن السدي عن رسول الله(ص) أنه قال:" ولاية علي يتساءلون عنها في قبورهم ، فلا يبقى ميت في شرق ولا في غرب ، ولا في بر ولا في بحر, إلا ومنكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين بعد الموت ، يقولان للميت: من ربك وما دينك ، ومن نبيك ومن إمامك ؟
التاسع والأربعون:{ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} الحجر ٤٧ . عن أبي هريرة ، قال ، قال علي بن أبي طالب: يا رسول الله ، أيما أحب إليك ، أنا ، أم فاطمة ؟ قال: فاطمة أحب إلي منك، وأنت أعز علي منها، وكأني بك وأنت يا علي على حوضي ، تذود عنه الناس. وإن عليه أباريق من عدد نجوم السماء ، وأنت والحسن والحسين وفاطمة وعقيل وجعفر في الجنة ، إخوانا على سرر متقابلين ، وأنت معي وشيعتك في الجنة . ثم قرأ رسول الله(ص):" إخوانا على سرر متقابلين " ، لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه.
الخمسون: نزول كرائم القرآن في علي(ع): قال ابن عباس:(ما نزل في أحد في كتاب الله ما نزل في علي) . وقال مرة أخرى:" ما في القرآن آية فيها( يا أيها الذين آمنوا), إلا وعلي رأسها وأميرها وشريفها, ولقد عاتب الله أصحاب محمد(ص) في القرآن، وما ذكر عليا إلا بخير". وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية وردت في القرآن الكريم في( ٨٩ ) موضعا. وقال مرة ثالثة :( نزل في علي ثلاثمئة آية من كتاب الله عز وجل ) . وقال الإمام أ حمد بن حنبل:(ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله من الفضائل, ما جاء لعلي بن أبي طالب). وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن علي ومعاوية ، فقال:( إن عليا كان كثير الأعداء ، ففتش أعداؤه عن شئ يعيبونه به فلم يجدوه ، فجاؤوا إلى رجل قد حاربه وقاتله ، فأطروه كيدا منهم به).
الإستدلال الثالث: بدليل السنة النبوية:
وأما " السنة ": فالأخبار المتواترة عن النبي(ص)، والدالة على إمامة أمير المؤمنين(ع)، هي أكثر من أن تحصى, ولنقتصرها هنا على القليل, فإن الكثير غير متناه ، وهي أخبار:
قال رسول الله (ص):" كنت أنا وعلي بن أبي طالب نورا بين يدي الله، قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم, قسم ذلك النور جزأين، فجزء أنا، وجزء علي".
قال رسول الله(ص):" إن الله جعل لأخي علي فضائل لا تحصى كثرة ، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها ، غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ومن كتب فضيلة من فضائله ، لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتاب رسم ، ومن استمع إلى فضيلة من فضائله ، غفر الله الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ، ومن نظر إلى كتاب من فضائله ، غفر الله الذنوب التي اكتسبها بالنظر. ثم قال(ص): النظر إلى علي عبادة ، وذكره عبادة ، ولا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته ، والبراءة من أعدائه ".
قال رسول الله(ص):" لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم ، فقال: الحمد لله ، فأوحى الله تعالى إليه حمدني عبدي ، وعزتي وجلالي لولا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك ، قال: إلهي فيكونان مني؟ قال: نعم يا آدم ، إرفع رأسك وانظر، فرفع رأسه ، فإذا مكتوب على العرش" لا إله إلا الله ، محمد نبي الرحمة ، وعلي مقيم الحجة ، من عرف حق علي زكا وطاب ، ومن أنكر حقه لعن وخاب ، أقسمت بعزتي وجلالي: أن أدخل الجنة من أطاعه وإن عصاني، وأقسمت بعزتي: أن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني".
قال رسول الله (ص):" لو أن البحر مداد ، والرياض أقلام ، والإنس كتاب ، والجن حساب ، ما أحصوا فضائلك يا أبا الحسن ".
حديث الثقلين: قال رسول الله(ص):" إني أوشك أن أدعى فأجيب , وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل وعترتي . كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما".
حديث الدار: حين أنزل الله تعالى:{ وأنذر عشيرتك الأقربين} الشعراء ٢١٤ , دعاهم(ص) إلى دار عمه أبي طالب, فصنع لهم وليمة وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، وقال رسول الله(ص):" يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ فأحجم القوم عنها غير علي(ع) - وكان أصغرهم - إذ قام فقال: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ رسول الله برقبته ، وقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا . فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ".
حديث السفينة: قال رسول الله(ص):" إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح, من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق . وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل, من دخله غفر له ".
حديث المنزلة: في مسند أحمد ، وفي صحيح البخاري ومسلم: أن النبي(ص) لما خرج إلى تبوك، استخلف عليا في المدينة ، وعلى أهله ، فقال علي(ع):" ما كنت أؤثر أن تخرج في وجه إلا وأنا معك". فقال(ص):" أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي".
حديث سد الأبواب: قام النبي صلى الله عليه وآله - يوم سد الأبواب - خطيبا ، فقال: أن رجالا يجدون في أنفسهم شيئا أن أسكنت عليا في المسجد وأخرجتهم ، والله ما أخرجتهم وأسكنته ، بل الله أخرجهم وأسكنه ، أن الله عز وجل ، أوحى إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ، واجعلوا بيوتكم قبلة ، وأقيموا الصلاة ، إلى أن قال: وأن عليا مني بمنزلة هارون بن موسى ، وهو أخي ، ولا يجوز لأحد أن ينكح فيه النساء إلا هو . . .".
حديث المؤاخاة: آخى النبي(ص) بين الناس، وترك عليا حتى بقي آخرهم، لا يرى له أخا ، فقال: يا رسول الله(ص) ، آخيت بين أصحابك وتركتني؟ فقال(ص):" إنما تركتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك، فإن ذكرك أحد، فقل: أنا عبد الله وأخو رسوله ، لا يدعيها بعدك إلا كذاب. والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ، وأنت أخي ووارثي". وكان أبو بكر وعمر في المؤاخاة الأولى أخوين, وعثمان وعبد الرحمن بن عوف أخوين، وكان في المرة الثانية أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وعمر وعتبان بن مالك أخوين، أما علي فكان في كلتا المرتين, أخا لرسول الله (ص) .
حديث الطائر المشوي: عن أنس بن مالك ، قال: كان عند النبي(ص) طائر قد طبخ له ، فقال: اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي ، فجاء علي فأكل معه ". وعن سفينة - مولى النبي(ص) - أنه قال: أهدت امرأة من الأنصار, طائرين مشويين بين رغيفين إلى رسول الله ، فقال(ص):" اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك ". فجاء علي(ع) فأكل معه من الطائرين حتى كفيا.
علي(ع) يكسر الأصنام: عن علي(ع) قال: لما كانت الليلة التي أمرني رسول الله(ص) أن أبيت على فراشه ، وخرج من مكة مهاجرا، انطلق بي رسول الله(ص) إلى الأصنام ، فقال: إجلس ، فجلست إلى جنب الكعبة ، ثم صعد رسول الله(ص) على منكبي، ثم قال: انهض . فنهضت به ، فلما رأى ضعفي تحته ، قال: إجلس, فجلست فأنزلته عني، وجلس لي رسول الله(ص) ثم قال لي:" يا علي اصعد على منكبي". فصعدت على منكبه ، ثم نهض بي رسول الله ، وخيل إلي أني لو شئت نلت السماء ، وصعدت إلى الكعبة ، وتنحى رسول الله(ص) فألقيت صنمهم الأكبر، وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد بالأرض. فقال لي رسول الله: عالجه فعالجته ، فما زلت أعالجه ويقول رسول الله: إيه إيه. فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه، فقال(ص): دقة . فدققته ، فكسرته ونزلت ".
حديث( تبليغ سورة براءة): في مسند أحمد ، وفي الجمع بين الصحاح الستة ، ما معناه: أن النبي(ص) بعث أبو بكر ببراءة لأهل مكة{ لا يخرج بعد العام هذا مشرك ، ولا يطوف في البيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، من كان بينه وبين رسول الله(ص) مدة فأجله إلى مدته، والله برئ من المشركين ورسوله}. فسار بها ثلاثا، فلما بلغ ذا الحليفة بعث إليه عليا، فرده . فرجع أبو بكر إلى النبي(ص)، فقال: يا رسول الله أنزل في شئ ؟ قال: لا ، ولكن جبرائيل جاءني وقال: لا يؤدي عنك إلا أنت، أو رجل منك ".
حديث الغدير: عن زيد بن أرقم ، قال: خطب رسول الله(ص) ، بغدير خم تحت شجرات ، فقال:" أيها الناس يوشك أن أدعى فأجيب ، وإني مسؤول ، وإنكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وجاهدت ونصحت ، فجزاك الله خيرا ، فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن جنته حق ، وأن ناره حق ، وأن الموت حق ، وأن البعث حق بعد الموت ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ؟ قالوا : بلى نشهد بذلك ، قال: اللهم اشهد ، ثم قال: يا أيها الناس إن الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه ، فهذا مولاه - يعني عليا - اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، ثم قال: يا أيها الناس إني فرطكم ، وأنكم واردون على الحوض ، حوض أعرض مما بين بصرى إلى صنعاء ، فيه عدد النجوم قدحان من فضة ، وأني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين ، كيف تخلفوني فيهما ، الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل ، سبب طرفه بيد الله تعالى ، وطرفه بأيديكم ، فاستمسكو به لا تضلوا ولا تبدلوا ، وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتى يردا علي الحوض".
عن ابن عباس قال: قال رسول الله(ص) لأم سلمة:" يا أم سلمة ! هذا علي لحمه لحمي، ودمه دمي، وهو مني بمنزلته هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، يا أم سلمة ! اسمعي واشهدي، هذا علي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وهذا عيبة علمي، وهذا بابي الذي أؤتى منه ، وهذا أخي في الدنيا والآخرة ، وهذا معي في السنام الأعلى".
قال رسول الله(ص):" إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال أبو بكر: أنا هو، قال لا ، قال عمر: أنا هو، قال لا ولكن خاصف النعل, يعني عليا ، قال أبو سعيد الخدري: فأتيناه فبشرناه ، فلم يرفع به رأسه, كأنه قد كان سمعه من رسول الله(ص)".
قال(ص) لعمار:" ستكون في أمتي بعدي هناة واختلاف، حتى يختلف السيف بينهم ، حتى يقتل بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض. يا عمار تقتلك الفئة الباغية ، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك، إن عليا لن يدنيك من ردى، ولن يخرجك من هدى . يا عمار، من تقلد سيفا أعان به عليا على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفا أعان به عدوه قلده الله وشاحين من نار، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني، يعني عليا، وإن سلك الناس كلهم واديا، وسلك علي واديا فاسلك واديا سلكه علي، وخل الناس طرا . يا عمار، إن عليا لا يزال على هدى . يا عمار، إن طاعة علي من طاعتي وطاعتي من طاعة الله تعالى".
عن سلمان(رض), قال: قلت: يا رسول الله، لكل نبي وصي, فمن وصيك ؟ قال: يا سلمان، من كان وصي أخي موسى؟ قال: قلت: يوشع بن نون . قال: لم ؟ قال: قلت: لأنه كان أعلمهم يومئذ. قال:" فإن وصيي, وموضع سري, وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي, ويقضي ديني، علي بن أبي طالب ".
قال رسول الله(ص):" من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه ، والى آدم في علمه ، والى إبراهيم في حلمه ، والى موسى في فطنته ، والى عيسى في زهده ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب".
قال صلى الله عليه وآله:" النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف( في الدين), فإذا خالفتها قبيلة من العرب( يعني في أحكام الله عز وجل ), اختلفوا فصاروا حزب إبليس".
قال رسول الله(ص):" من سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال عليا من بعدي، وليوال وليه ، وليقتد بأهل بيتي من بعدي، فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي، ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي, لا أنا لهم الله شفاعتي".
قال رسول الله(ص):" أول من يدخل من هذا الباب إمام المتقين، وسيد المسلمين، ويعسوب الدين، وخاتم الوصيين، وقائد الغر المحجلين". فدخل علي، فقام إليه مستبشرا ، فاعتنقه وجعل يمسح عرق جبينه ، وهو يقول له:" أنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي".
قال صلى الله عليه وآله:" في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله ، فانظروا من توفدون ".
قال رسول الله(ص):" اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العينين من الرأس، فإن الجسد لا يهتدي إلا بالرأس, ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين".
المبحث الرابع: في ذكر بعض فضائل علي(ع):
القسم الأول: في مولده ونسبه(ع):
مولده المبارك(ع): ولد(ع) يوم الجمعة ، الثالث عشر من شهر رجب ، بعد عام الفيل بثلاثين سنة، في" الكعبة ". ولم يولد فيها أحد سواه قبله ولا بعده . ولرسول الله(ص) يومها ثلاثون سنة ، فأحبه رسول الله(ص) حبا شديدا, وقال لأمه فاطمة بنت أسد: اجعلي مهده قرب فراشي . وكان(ص) يلي أكثر تربيته ، وكان يطهر عليا في وقت غسله. ويؤجره اللبن عند شربه ، ويحرك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ورقبته ، ويقول: هذا أخي ووليي وناصري ووصيي وزوج كريمتي، وذخري وكهفي وصهري، وأميني على وصيتي وخليفتي. وكان رسول الله(ص) يحمله دائما، ويطوف به في جبال مكة وشعابها وأوديتها .
نسبه الشريف(ع): . لم يلحق أحد بأمير المؤمنين في شرف النسب، كما قال(ع):" نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد ". قال الجاحظ, وهو من أعظم الناس عداوة للإمام:" صدق علي في قوله:(نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد) ، كيف يقاس بقوم منهم رسول الله(ص) ؟ والأطيبان علي وفاطمة ، والسبطان الحسن والحسين ، والشهيدان حمزة وذو الجناحين جعفر، وسيد الوادي عبد المطلب، وساقي الحجيج عباس، وحليم البطحاء أبو طالب؟ والنجدة والخيرة فيهم ؟ والأنصار من نصرهم، والمهاجرون من هاجر إليهم ومعهم ، والصديق من صدقهم ، والفاروق من فرق الحق والباطل فيهم ، والحواري حواريهم ، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم ، ولا خير إلا فيهم ولهم ومنهم . وأبان رسول الله(ص) أهل بيته بقوله:" إني تارك فيكم الخليفتين: كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى أهل الأرض ، وعترتي أهل بيتي، نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض", ولو كانوا كغيرهم لما قال عمر، لما طلب مصاهرة علي: إني سمعت رسول الله(ص) يقول:" كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ". فأما علي فلو أوردنا لأيامه الشريفة ومقاماته الكريمة ومناقبه السنية ، لأفنينا في ذلك الطوامير الطول، العرق صحيح والمنشأ كريم ، والشأن عظيم والعمل جسيم ، والعلم كثير والبيان عجيب ، واللسان خطيب والصدر رحيب ، وأخلاقه وفق أعراقه ، وحديثه يشهد لقديمه ".
القسم الثاني: في فضائله النفسانية:
في الإيمان: بواسطة سيفه(ع) تمهدت قواعد الدين، وتشيدت أركانه ، وبواسطة تعليمه الناس حصل لهم الإيمان أصوله وفروعه. ولم يشرك بالله طرفة عين. ولم يسجد لصنم قط، بل هو كسر الأصنام لما صعد على كتف النبي(ص). وهو أول من أسلم، وأول من صلى مع النبي(ص).
في العلم: الناس كلهم عيال عليه في المعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، والأحكام الشرعية والقضايا النقلية، لأنه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم ، وملازمته لرسول الله(ص)، وهو أشفق الناس عليه ، لا ينفك عنه ليلا ولا نهارا، فيكون بالضرورة أعلم من غيره..
قال رسول الله(ص):" أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب". وقال(ص): ( قسم العلم عشرة أجزاء ، فأعطي علي منها تسعة ، وهو بالجزء العاشر أعلم الناس). وقال(ص): ( أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب ). وقال(ص): ( إن أقضى أمتي علي بن أبي طالب ). وقال(ص): ( أنا دار الحكمة وعلي بابها ).
وأما علم( النجوم), وعلم( الكلام ) فهو واضعه. وكذا(علم التفسير) ، قال ابن عباس: حدثني أمير المؤمنين في باء "بسم الله الرحمن الرحيم "، من أول الليل إلى الفجر، لم يتم . و(علم الفصاحة ) إليه منسوب ، حتى قيل في كلامه: إنه فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق.
وأما (علم الطريقة) ، فإن جميع الصوفية ، وأرباب الإشارات والحقيقة ، يسندون الخرقة إليه .
وأيضا, جميع الصحابة رجعوا إليه في الأحكام واستفادوا منه ، ولم يرجع هو إلى أحد منهم في شئ ألبتة . وقال عمر بن الخطاب ، في عدة مواضع:( لولا علي لهلك عمر) .
وفي صحيح مسلم:" أن عليا قال على المنبر:" سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله عز وجل ، فما من آية إلا وأعلم حيث نزلت، بحضيض جبل أو سهل أرض، سلوني عن الفتن، فما فتنة إلا وقد علمت كبشها ، ومن يقتل فيها ".
وكان(ع) يقول:" سلوني عن طرق السماء ، فإني أعرف بها من طرق الأرض". وقال:" علمني رسول الله(ص) ألف باب من العلم ، في كل باب ألف باب". وقضاياه العجيبة أكثر من أن تحصى. كقسمة الدراهم على صاحبي الأرغفة . وبسط الدية على القارضة ، والقامصة ، والواقصة. وإلحاق الولد بالقرعة.. والأمر بشق الولد نصفين ، حتى رجعت المتداعيتان إلى الحق . والأمر بضرب عنق العبد، حتى رجع إلى الحق . وحكمه في ذي الرأسين بإيقاظ أحدهما . واستخراج حكم الخنثى. وأحكام البغاة . قال الشافعي:"عرفنا حكم البغاة من علي". وغير ذلك من الأحكام الغريبة ، التي يستحيل أن يهتدي إليها من سئل( أي عمر) عن الكلالة والأب فلم يعرفهما !
في الإخبار بالغيب: وقد حصل منه في عدة مواطن: فمنها: أنه قال في خطبة:" سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله لا تسألونني عن فئة تضل مائة ، وتهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة ، فقام إليه سنان بن أنس النخعي, فقال له: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟ فقال: والله لقد حدثني خليلي رسول الله(ص) بما سألت، وإن على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك، وإن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطانا يستفزك ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول الله(ص)، ولولا أن الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرت به ، ولكن آية ذلك ما نبأت به من لعنك وسخلك الملعون". وكان ابنه في ذلك الوقت صغيرا، وهو الذي تولى قتل الحسين(ع) .
وأخبر بقتل " ذي الثدية " من الخوارج ، وعدم عبور الخوارج النهر، بعد أن قيل له: قد عبروا .
وعن قتل نفسه. وبقطع يدي جويرية بن مسهر وصلبه ، فوقع في أيام معاوية. وبصلب ميثم التمار، وطعنه بحربة عاشر عشرة ، وأراه النخلة التي يصلب على جذعها ، ففعل به ذلك عبيد الله بن زياد عليهما اللعنة. وبقطع يدي رشيد الهجري ورجليه وصلبه ، ففعل ذلك به. وقتل قنبر، فقتله الحجاج.
وبأفعال الحجاج التي صدرت عنه .
وجاء رجل إليه ، فقال: إن خالد بن عرفطة قد مات ، فقال(ع): إنه لم يمت ، ولا يموت ، حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن جمار، فقام رجل من تحت المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين، إني لك شيعة ومحب؟ فقال: من أنت ؟ فقال: أنا حبيب بن جمار، قال: وإياك أن تحملها، ولتحملنها، وتدخل بها من هذا الباب، وأومئ بيده إلى باب الفيل . فلما كان زمان الحسين(ع) ، جعل ابن زياد خالد بن عرفطة على مقدمة عمر بن سعد ، وحبيب بن جمار حتى دخل من باب الفيل .
وقال للبراء بن عازب: يقتل ابني الحسين وأنت لا تنصره ، فقتل الحسين(ع)، فلم ينصره .
ولما اجتاز بكربلاء في وقعة صفين بكى، وقال:" هذا والله مناخ ركابهم ، وموضع قتلهم ، وأشار إلى ولده الحسين وأصحابه. وأخبر بعمارة بغداد. وملك بني عباس ، وأحوالهم. وأخذ المغول الملك منهم . والأخبار بذلك كثيرة..
في الزهد: لا خلاف في أنه أزهد أهل زمانه ، طلق الدنيا ثلاثا ، قال قبيصة بن جابر:" ما رأيت في الدنيا أزهد من علي بن أبي طالب ، كان قوته الشعير غير المأدوم ، ولم يشبع من البر ثلاثة أيام ". قال عمر بن عبد العزيز:" ما علمنا أن أحدا كان في هذه الأمة بعد النبي(ص) أزهد من علي بن أبي طالب ". وعن عمار بن ياسر ، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول:" يا علي ، إن الله تعالى زينك بزينة لم يزين العباد بزينة هي أحب إليه منها، زهدك في الدنيا ، وبغضها إليك ، وحبب إليك الفقراء ، فرضيت بهم أتباعا، ورضوا بك إماما. يا علي، طوبى لمن أحبك وصدق عليك، والويل لمن أبغضك، وكذب عليك . أما من أحبك وصدق عليك فإخوانك في دينك ، وشركاؤك في جنتك ، وأما من أبغضك وكذب عليك، فحقيق على الله أن يقيمه يوم القيامة مقام الكاذبين ".
في الكرم: لا خلاف في أنه كان أسخى الناس ، جاد بنفسه فأنزل الله في حقه:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ". وتصدق بجميع ماله في عدة مرات. وجاد بقوته ثلاثة أيام. وكان يعمل بيده حديقة ويتصدق بها.
في استجابة دعائه(ع): كان رسول الله(ص) قد استسعد به ، وطلب تأمينه على دعائه يوم المباهلة ، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة. ودعا على أنس بن مالك ، لما استشهد به على قول النبي(ص):" من كنت مولاه فعلي مولاه " ، فاعتذر بالنسيان، فقال: اللهم إن كان كاذبا فاضربه ببياض لا تواريه العمامة ، فبرص لحينه. ودعا على البراء بالعمى، لأجل نقل أخباره إلى معاوية ، فعمي. وردت عليه الشمس مرتين لما دعا به. ودعا في زيادة الماء لأهل الكوفة ، حتى خافوا الغرق، فنقص حتى ظهرت الحيتان فكلمته ، إلا الجري والمارماهي والزمار، فتعجب الناس من ذلك.
وأما حسن الخلق: فبلغ فيه الغاية ، حتى نسبه أعداؤه إلى الدعابة. وكذا الحلم: قال رسول الله(ص) لفاطمة(ع): إني زوجتك من أقدم الناس سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما ".
في محبته(ع): قال رسول الله(ص):" أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله ، ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغضه فقد أبغضني, ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل ".
قال رسول الله(ص):" يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ".
عن أبي ذر(رض)، قال: دخلنا على رسول الله(ص)، فقلنا: من أحب أصحابك إليك, وإن كان أمر كنا معه ، وإن كانت نائبة كنا من دونه ؟ قال: هذا علي أقدمكم سلما وإسلاما".
قال رسول الله(ص):" يا معشر الأنصار, ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبدا، هذا علي فأحبوه بحبي، وأكرموه بكرامتي ، فإن جبرائيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل".
وقال(ص):" حب علي حسنة، لا يضر معها سيئة ، وبغض علي سيئة , لا ينفع معها حسنة ".
وقال رجل لسلمان: ما أشد حبك لعلي؟ قال: سمعت رسول الله(ص) يقول:" من أحب عليا فقد أحبني، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ".
قال رسول الله(ص)، وقد أخذ بيد الحسن والحسين(ع):" من أحبني وأحب هذين، وأحب أباهما وأمهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة ".
وعن ابن عمر: قال رسول الله(ص):" من أحب عليا قبل الله منه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه ، ألا ومن أحب عليا أعطاه بكل عرق في بدنه مدينة في الجنة . ألا ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط ، ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله بالجنة مع الأنبياء ، ألا ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ".
وعن ابن عباس قال: إن رسول الله(ص) قال:" أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة ولما هو أهله ، وأحبوني لحب الله تعالى ، وأحبوا أهل بيتي لحبي".
وعن معاوية بن وحيد، قال: سمعت النبي(ص) يقول لعلي:" يا علي ، لا يبالي من مات وهو يبغضك, مات يهوديا أو نصرانيا ".
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله(ص) لعلي:" كذب من زعم أنه يبغضك ويحبني".
وعن أبي هريرة قال: أبصر النبي (ص) عليا وحسنا وحسينا وفاطمة ، فقال:" أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم ".
وعن ابن عباس, قال: قال النبي(ص) لعلي:" أنت سيد في الدنيا والآخرة من أحبك فقد أحبني، ومن أحبني أحب الله عز وجل ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو الله ، ويل لمن أبغضك ".
وقال رسول الله(ص):" لو اجتمع الناس على حب علي لم يخلق الله النار".
عن ابن عباس, قال رسول الله(ص):" إذا كان يوم القيامة أمر الله جبرائيل أن يجلس على باب الجنة ، فلا يدخلها إلا من معه براءة من علي(ع) ".
وعن جابر بن سمرة ، قال: قيل: يا رسول الله ، من صاحب لوائك في الآخرة ؟ قال: " صاحب لوائي في الآخرة ، صاحب لوائي في الدنيا علي بن أبي طالب ".
قال رسول الله(ص):" لا يجوز أحد الصراط, إلا من كتب له علي الجواز".
قال رسول الله(ص) لعلي(ع):" أنت قسيم الجنة والنار في يوم القيامة ، تقول للنار: هذا لي، وهذا لك".
قال النبي(ص):" من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله, ومن سب الله أكبه الله على منخريه في النار".
قال رسول الله(ص):" من آذى عليا فقد آذاني، أيها الناس، من آذى عليا بعث يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا ".
وعن عبد الله بن أنس، قال رسول الله(ص):" إذا كان يوم القيامة ، ونصب الصراط على شفير جهنم، لم يجز عليه إلا من معه كتاب بولاية علي بن أبي طالب ".
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى .
القسم الثالث: في فضائله البدنية:
في العبادة: لا خلاف أنه(ع) كان أعبد الناس، ومنه تعلم الناس صلاة الليل والأدعية المأثورة ، والمناجاة في الأوقات الشريفة ، والأماكن المقدسة. وبلغ(ع) في العبادة إلى أنه كان يؤخذ النشاب من جسده عند الصلاة ، لانقطاع نظره عن غيره تعالى بالكلية. وكان مولانا زين العابدين(ع) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، ويدعو بصحيفة ، ثم يرمي بها كالمتضجر، ويقول:" أنى لي بعبادة علي(ع) " ؟. قال الإمام الكاظم(ع):" إن قوله تعالى:" تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوهم من أثر السجود " ، نزلت في أمير المؤمنين . وكان يوما في صفين ، مشتغلا بالحرب ، وهو بين الصفين يراقب الشمس، فقال ابن عباس: ليس هذا وقت صلاة ، إن عندنا لشغلا ، فقال علي(ع):" فعلام نقاتلهم ، إنما نقاتلهم على الصلاة ؟ ". وهو الذي عبد الله حق عبادته ، حيث قال:" ما عبدتك خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك، ولكن رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك".
في الجهاد: وإنما تشيدت مباني الدين، وتثبتت قواعده ، وظهرت معالمه بسيف مولانا أمير المؤمنين(ع) ، وتعجبت الملائكة من شدة بلائه في الحرب. ففي غزاة ( بدر), وهي الداهية العظمى على المسلمين ، قتل صناديد قريش الذين طلبوا المبارزة ، كالوليد بن عتبة ، والعاص بن سعيد بن العاص، الذي أحجم المسلمون عنه ، ونوفل بن خويلد ، الذي قرن أبا بكر وطلحة بمكة قبل الهجرة وأوثقهما بحبل وعذبهما، وقال رسول الله(ص)، لما عرف حضوره في الحرب:" اللهم اكفني نوفلا ". ولما قتله علي(ع) قال رسول الله(ص):"الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه". ولم يزل(ع) يقتل في ذلك اليوم واحدا بعد واحد، حتى قتل نصف المقتولين، وكانوا سبعين، وقتل المسلمون كافة وثلاثة آلاف من الملائكة المسومين, النصف الآخر!
وفي غزوة ( أحد) انهزم المسلمون عن النبي(ص)، ورماه المشركون وضربوه بالسيوف والرماح، وعلي يدافع عنه ! ونزل جبرائيل قائلا:" لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي"، وقال للنبي: يا رسول الله ، لقد عجبت الملائكة من حسن مواساة علي لك بنفسه ، فقال النبي(ص): ما يمنعه من ذلك، وهو مني وأنا منه ؟ ورجع بعض الناس لثبات علي(ع) ، ورجع عثمان بعد ثلاثة أيام، فقال له رسول الله:" لقد ذهبت بها عريضا ".
وفي غزوة ( الخندق) أحدق المشركون بالمدينة ، كما قال الله تعالى:" إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم". قال ربيعة السعدي: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبد الله, إنا لنتحدث عن علي ومناقبه, فيقول أهل البصيرة: إنكم لتفرطون في علي! فهل أنت محدثي بحديث أذكره للناس؟ فقال حذيفة: يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي؟ وما الذي أحدثك عنه ؟ والذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد(ص) في كفة منذ بعث الله تعالى محمدا(ص) إلى يوم القيامة, ووضع عمل علي في الكفة الاخرى, لرجح عمل علي على أعمالهم . فقال ربيعة: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد، إني لأظنه إسرافا يا أبا عبد الله . فقال حذيفة: يا لكع وكيف لا يحمل؟ وأين كان أبوبكر وعمر وحذيفة, وجميع أصحاب النبي(ص) يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو بن عبد ود؟ فملكهم الهلع والجزع ، فدعاهم عمرو إلى المبارزة فأحجموا عنه, حتى برز إليه علي فقتله . والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أعمال أمة محمد(ص) إلى يوم القيامة " !
وحين برز الإمام علي(ع) إلى عمرو بن عبد ذي ود العامري, قال رسول الله(ص):" برز الايمان كله إلى الشرك كله". ونادى جبرائيل(ع):" لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي". وكان المشركين إذا أبصروا عليا في الحرب, عهد بعضهم بعضا.
وفي غزوة (بني المصطلق) قتل أمير المؤمنين(ع) مالكا وابنه ، وسبى جويرية بنت الحارث ، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وآله.
وفي غزوة (خيبر) عن عبد الله بن بريدة ، قال, سمعت أبي يقول:" حاصرنا خيبر، وأخذ اللواء أبو بكر، فانصرف، ولم يفتح له . ثم أخذه عمر من الغد، فرجع ، ولم يفتح له. وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول الله(ص):" إني دافع الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله له ". فبات الناس يتداولون ليلتهم، أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا إلى رسول الله(ص) كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: إنه أرمد العين، فأرسل إليه ، فأتى، فبصق رسول الله(ص) في عينيه ، ودعا له ، فبرئ فأعطاه الراية ، ومضى علي، فلم يرجع حتى فتح الله على يديه ".
لقد كان الفتح فيها لأمير المؤمنين(ع)، قتل مرحبا، وانهزم الجيش بقتله، أغلقوا باب الحصن، فعالجه أمير المؤمنين(ع)، ورمى به ، وجعله جسرا على الخندق للمسلمين، وظفروا بالحصن وأخذوا الغنائم ، وكان يقله سبعون رجلا، وقال(ع):" والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية، بل بقوة ربانية ".
وفي غزوة ( الفتح ) قتل أمير المؤمنين, الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ، وكان يؤذي النبي(ص) ، وقتل جماعة ، وكان الفتح على يده .
وفي غزوة ( حنين ) حين استظهر النبي(ص) بالكثرة ، فخرج بعشرة آلاف من المسلمين، فعاينهم أبو بكر، وقال: لن نغلب اليوم من قلة ، فانهزموا بأجمعهم، ولم يبق مع النبي(ص) سوى تسعة من بني هاشم ، فأنزل الله تعالى:" ثم وليتم مدبرين ثم أنزل سكينته على رسوله وعلي المؤمنين"، يريد عليا ومن ثبت معه ، وكان يضرب بالسيف بين يديه ، والعباس عن يمينه ، والفضل عن يساره ، وأبو سفيان بن الحارث يمسك سرجه ، ونوفل وربيعة ابنا الحارث، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب ، من وراء ظهر النبي(ص)، فقتل أمير المؤمنين(ع) رئيس القوم وجمعا كثيرا، فانهزم المشركون ، وحصل الأسر.
وابتلى(ع) بجميع الغزوات, وقاتل" الناكثين "، و" القاسطين "، و" المارقين ". وروى أبو بكر الأنباري في أماليه: أن عليا(ع) جلس إلى عمر في المسجد، وعنده ناس ، فلما قام عرض واحد بذكره ، ونسبه إلى التيه والعجب، فقال عمر:" حق لمثله أن يتيه ، والله لولا سيفه لما قام عمود الإسلام ، وهو بعد أقضى الأمة ، وذو سبقها ، وذو شرفها ". فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه ؟ فقال:" كرهناه على حداثة السن، وحبه بني عبد المطلب ".
المبحث الخامس: في الإمام المهدي(ع):
إن البشارة بظهور المهدي(ع) من ولد فاطمة في آخر الزمان, ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا, ثابتة عن النبي(ص) بالتواتر، وسجلها المسلمون جميعا فيما رووه من الحديث عنه على اختلاف مشاربهم . وليست هي بالفكرة المستحدثة عند( الشيعة), دفع إليها انتشار الظلم والجور، فحلموا بظهور من يطهر الأرض من رجس الظلم ، كما يريد أن يصورها بعض المغالطين غير المنصفين .
قال رسول الله(ص):" إن أوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر، أولهم أخي، وآخرهم ولدي". قيل: يا رسول الله ! من أخوك ؟ قال:(علي)، قيل: من ولدك ؟ قال:" المهدي، الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد, لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله فيصلي خلف ولدي، وتشرق الأرض بنور ربها، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب".
ونحن مع إيماننا بصحة الدين الاسلامي, وأنه خاتمة الأديان الإلهية , ولا نترقب دينا آخر لإصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم واستشراء الفساد في العالم, على وجه لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة ، ومع ما نرى من انكفاء المسلمين أنفسهم عن دينهم وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الإسلامية ، وعدم التزامهم بواحد من الألف من أحكام الإسلام, نحن مع كل ذلك, لا بد أن ننتظر الفرج بعودة الدين الاسلامي إلى قوته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد.
ثم لا يمكن أن يعود الدين الاسلامي إلى قوته وسيطرته على البشر عامة ، وهو على ما هو عليه اليوم من اختلاف معتنقيه في قوانينه وأحكامه وفي أفكارهم عنه ، وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البدع والتحريفات في قوانينه والضلالات في ادعاءاتهم .
نعم لا يمكن أن يعود الدين إلى قوته إلا إذا ظهر على رأسه مصلحا عظيما, يجمع الكلمة ويرد عن الدين تحريف المبطلين، ويبطل ما ألصق به من البدع والضلالات, بعناية ربانية وبلطف إلهي, وليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا .
والخلاصة أن طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم ، مع الإيمان بصحة هذا الدين وأنه الخاتمة للأديان, يقتضي انتظار هذا المصلح، لإنقاذ العالم مما هو فيه . ولأجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع الفرق المسلمة ، بل الأمم من غير المسلمين.
غير أن الفرق بين الإمامية وغيرها, هو أن الإمامية تعتقد أن هذا المصلح المهدي هو شخص معين معروف, ولد سنة 256 هجرية ولا يزال حيا، وهو ابن الإمام الحسن العسكري واسمه (محمد), وذلك بما ثبت عن النبي(ص) وآل البيت من الوعد به , وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه .
ولا يجوز أن تنقطع الإمامة وتحول في عصر من العصور، وإن كان الإمام مخفيا، ليظهر في اليوم الموعود به من الله تعالى, فهو من الأسرار الإلهية التي لا يعلم بها إلا هو تعالى .
ولا يخلو من أن تكون حياته(ع) وبقاؤه هذه المدة الطويلة, معجزة جعلها الله تعالى له ، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماما للخلق, وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى، ولا هي بأعظم من معجزة عيسى, إذ كلم الناس في المهد صبيا وبعث في الناس نبيا .
وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي أو الذي يتخيل أنه العمر الطبيعي لا يمنع منها فن الطب ولا يحيلها، غير أن الطب بعد لم يتوصل إلى ما يمكنه من تعمير حياة الانسان . وإذا عجز عنه الطب, فإن الله تعالى قادر على كل شئ ، وقد وقع فعلا تعمير نوح وبقاء عيسى عليهما السلام كما أخبر عنهما القرآن الكريم !
ومما يجدر أن نذكره في هذا الصدد ونذكر أنفسنا به, أنه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي)، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم ، وما يجب عليهم من نصرته والجهاد في سبيله والأخذ بأحكامه, بل المسلم أبدا مكلف بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية ، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة, وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكن من ذلك وبلغت إليه قدرته( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) . فلا يجوز له التأخر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فإن هذا لا يسقط تكليفا ولا يؤجل عملا، ولا يجعل الناس هملا كالسوائم .
" اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن, صلواتك عليه وعلى آباءه , في هذه الساعة وفي كل ساعة , وليا وحافظا, وقائدا وناصرا, ودليلا وعينا, حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا, برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أرني تلك الطلعة الرشيدة , والغرة الحميدة , واكحل ناضري بنضرة مني إليه , وعجل فرجه, وسهل مخرجه , وأوسع منهجه , واسلك بي محجته يا الله !
اللهم أدرك بنا أيامه وقيامه واجعلنا من أنصاره وأعوانه , وأقرن ثارنا بثاره , وأحينا في دولته ناعمين, وبصحبته غانمين, وبحقه قائمين, ومن السوء سالمين, برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم وإن حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتما مقضيا, فصل على محمد وآل محمد, واجعل لي يا رب كرات في ظهوره , ورجعات في أيامه , لأبلغ من طاعتك وطاعته مرادي, وأشف من أعدائك وأعدائه فؤادي, وأكون من الذابين عنه , والممتثلين لأوامره , والمستشهدين بين يديه , برحمتك يا أرحم الراحمين ".