اللهم صل على محمد وال محمد --- aboutaqua@yahoo.it --- اللهم صل على محمد وال محمد

الأصل الثالث للدين: النبــــــوة

أولا : دليل الإضطرار إلى الحجة:
قال الله تعالى:{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} البقرة ٢١٣
دليل الإضطرار إلى الحجة, هو دليل الفلاسفة والحكماء وأهل المعقول على ضرورة وجود الحجة , نبيا كان أو وصيا, قالوا:
بما أن هذا الانسان مخلوق غريب الأطوار، معقد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيته ، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من حب النفس والهوى, وحب التغلب والاستطالة والاستيلاء على ما سواه ، والتكالب على الدنيا وزخارفها ومتاعها..
وهذا المخلوق له نقائص وغرائز وأحوال مختلفة , يحتاج فيها إلى أشياء كثيرة لتكميل حياته اليومية سوى في الجانب المادي أو في الجانب المعنوي , فالإنسان بحاجة إلى الطبيب وإلى النجار وإلى الخباز وإلى الفلاح وإلى اللحام.. وهكذا النجار, وهكذا الخباز, وهكذا وهكذا.. وكل واحد منهم يحتاج إلى الآخر لتكميل نقائص حياته اليومية, وإذا تصورنا أن الإنسان يعيش منفصلا عن غيره من أبناء البشر, لا يمكن أن نتصور له حياة طيبة صحيحة وسليمة بل حياته ستكون شبيهة بحياة البهائم , فالإنسان بحاجة إلى المعايشة المدنية ولن تتكامل حياته إلا بالعيش مع أبناء جنسه , فالإنسان مدني بطبعه !
وكما أن لهذا المخلوق نقائص في الجانب المادي, له أيظا نقائص في الجانب المعنوي , إذ جراء هذا الإحتكاك والمباشرة والمخالطة بالناس فستكون هناك منافع ومضار من خلال هذا الإلتقاء , وسيحدث تزاحم على كسب المنافع ودفع المضار, ومقاومة كل واحد لصاحبه فيما يحتاج إليه , وكل واحد منهم سيحاول جلب أكثر المنافع لنفسه , لأن غريزة الأنانية غريزة طبيعية موجودة في نفس كل إنسان ولا يمكن قتلها أبدا !
وبما أن لنا ربا كريما سميعا بصيرا قادرا على كل شيء , وعلمه قد أحاط بكل شيء , ورحمته وسعت كل شيء , وحكمته ظهرت في كل شيء , فعدالته سبحانه تأبی أن یخلق هذا الخلق وبهذه الکثرة العظیمة والطبقات المختلفة , ثم یترکهم سدی یتیهون في درکات الظلالة وظلمات الجهل بدون معلم ولا مرشد !
إذن: فمع وجود هاتين المقدمتين( كمال الباري ونقص البشر), لا بد لهذا الحكيم المتعال, ومن باب لطفه وكرمه , وبما أن هذه الخليقة رعيته وهؤلاء الناس عبيده , لا بد: أن يرسل لهم{رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}, يبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم, وينذرهم عما فيه فسادهم وشقائهم . يكون لهم دليلا وآية وعلامة ومنارا واضحا يبين لهم منافع ومضار الدنيا والآخرة . وأفضل ما يمكن أن تستأنس به وله النفوس البشرية هو أن يكون هذا المرسل من أبناء جنسهم ويمتلك من الملكات والقابليات والقدرات ما لا يمتلكها سائر بني البشر, فينقاد كل واحد منهم إلى أمره وينتهي عند زجره .
وهذا هو دليل الإضطرار إلى الحجة , والعقل الصحيح والسليم يحكم بضرو رة وجود الحجة من قبل الباري تعالى !
ثانيا: معنى النبي والنبوة وما يتعلق بهما:
قال الله تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} الحديد ٢٥
النبي هو: ذلك الإنسان الذي له من طهارة الروح وصفاءها والإستعداد النفسي والقدرة على تلقي الوحي الإلهي, وهو مختار من قبل الله تعالى يعلمه ويؤيده بالمعجزات بما يثبت دعواه .
والنبي مأخوذ من النبأ أي الخبر, أو من النبوة والنباوة , وهي الإرتفاع . سمي به لإرتفاع شأنه وسطوع أمره . وهو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر.
والرسول هو: النبي الذي ينزل عليه الملك بالوحي فيراه ويكلمه, وله شريعة كشريعة نبينا محمد(ص) وأولي العزم من الأنبياء .
إذن: فكل رسول هو نبي , وليس كل نبي هو رسول !
فالفرق بین النبيّ والرسول هو أنّ النبي یری في منامه ويوحى إليه فيه ویسمع صوت الملک لکن لا یعاینه ولا یراه , بینما الرسول یسمع الصوت ویری في المنام ویعاین الملک. والإثنان مأموران بتبليغ التعاليم التي يتلقونها.
والنبوة هي: منصب إلاهي وسفارة بين الله وبين عباده . هي حالة غيبية تربط النبي بالعالم العلوي لتلقي تعاليم الله ومعارفه لكي يبلغها للبشر ويوصلهم لحقيقة العبودية , ويرفع عنهم التناقض والاختلاف ويوصلهم إلى سعادة الدنيا والآخرة .
والرسالة هي: نفس التعاليم الإلهية التي تلقاها النبي وبلغها للناس .
والكتاب هو: الذي يجمع بين دفتيه أصول التعاليم والمعارف الإلهية التي تلقاها النبي المرسل للتبليغ ، وفيه كل حكم إلهي مفروض وواجب الإتباع ولا يقبل النقض .
والوحي هو: حالة الاتصال الروحي للنبي بما وراء المادة( الغيب) لتلقي وإدراك المعارف والتعاليم الإلهية الحقيقية بالطرق التي بينها الله في كتابه ، ونسبة النبي فيها إلى الناس نسبة المستيقظ إلى النائمين ، وإن نفس النبي وروحه الطاهرة هي التي تتلقى وتدرك الوحي بالكلام والرؤية ، وقيل من غير مشاركة للحواس الظاهرة المادية .
ولتلقي الوحي طرق ثلاث: وهي إما إلقاء في القلب ونفث في الروع ، وإما تكليم من وراء حجاب ، أو إرسال ملك الوحي . قال تعالى:{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } الشورى ٥١
أولي العزم: هم الأنبياء والرسل الذين يأتون بتعاليم مكملة للرسالة السابقة أو ناسخة لها وفق عصر الناس واستعدادهم الجديد، والأنبياء الرسل المعروفون بأولي العزم هم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليهم وآلهم أجمعين .
ومعنى العزم هو الثبات على العهد الأول المأخوذ على الأنبياء ، وكل واحد منهم صاحب شريعة ومنهاج وكتاب .
ثالثا: طريقة معرفة الأنبياء:
تنصیص النبي السابق: الثابتة نبوته، علی النبي اللاحق الذي یراد معرفته , کتنصیص النبيّ موسی والنبيّ عیسی علیهما السلام علی نبوة نبيّ الإسلام(ص).
الإعجاز: فإن اتیان النبي في مقام التحدي بالمعجزة الخارقة للعادة ، المطابقة لدعواه والمتعذر مثلها من الخلق ، یوجب القطع بأنه من عمل الله تعالی.
والمعجز في اللغة: هو الأمر الخارق للعادة , المطابق لدعوى المدعي , والذي يجعل الغير عاجزا عن مجاراته والإتيان بمثله.
وكما أنه لا بد للنبي من معجزة يظهر بها للناس لإقامة الحجة عليهم , فلا بد أن تكون تلك المعجزة ظاهرة الإعجاز بين الناس على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في ذلك العصر, فضلا عن غيرهم من سائر الناس , مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوة منه لتكون دليلا على مدعاه وحجة بين يديه . فإذا عجز عنها أمثال أولئك علم أنها فوق مقدور البشر وخارقة للعادة ، فيعلم أن صاحبها فوق مستوى البشر بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبر الكائنات ، وإذا تم ذلك لشخص، يكون حينئذ موضعا لتصديق الناس بدعواه والإيمان برسالته والخضوع لقوله وأمره , فيؤمن به من يؤمن ويكفر به من يكفر.
ولأجل هذا وجدنا أن معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون ، فمثلا كانت معجزة موسى(ع) هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون ، إذ كان السحر في عصره فنا شائعا ، فلما جاءت العصا بطل ما كانوا يعملون وعلموا أنها فوق مقدورهم ، وأعلى من فنهم وأنها مما يعجز عن مثله البشر، ويتضاءل عندها الفن والعلم .
وكذلك كانت معجزة عيسى(ع) ، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، إذ جاءت في وقت كان فن الطب هو السائد بين الناس وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا ، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسى(ع) .
رابعا: عصمة الأنبياء(ع):
قال سبحانه وتعالى:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} الجمعة ٢
العصمة: في اللغة , من عصمه الله من المكروه , أي حفظه ووقاه ومنعه عنه.
)ومنه قولهم اعتصم فلان بالجبل) إذا امتنع به . أو مثل إعطائنا رجلا غريقا حبلا ليتشبث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به سمي ذلك الشئ عصمة له, لما تشبث وسلم به من الغرق.
وقد بين الله هذا المعنى في كتابه بقوله:{ فاعتصموا بحبل الله جميعا }.
وفي الاصطلاح, هي لطف خفي يفعله الله تعالى بالعبد، بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك .
وقيل هي فيض إلهي يقوي به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر حتى تصير كمانع له .
لقد اختلف الناس في عصمة الأنبياء(ع) , فجوزت الخوارج عليهم الذنوب، والحشوية جوزوا عليهم الإقدام على الكبائر, ومنهم من منعها عمدا لا سهوا وجوزوا تعمد الصغائر. والأشاعرة قالوا بعدم وجوب عصمتهم قبل البعثة , وجوزوا عليهم إرتكاب المعاصي .
أما الإمامية فقد أوجبوا العصمة مطلقا, ويعتقدون بعصمة جميع الأنبیاء وأنهم منزهون عن ارتکاب الصغائر والکبائر وعن کل رذیلة ومنقصة قبل البعثة وبعدها , سهوا وعمدا, بل وحتى عما ينافي المروة ويستهجن فعله عند العرف العام: كالتبذل بين الناس من الأكل في الطريق أو الضحك بصوت عال..الخ. وأن یکونوا متصفون بأکمل الصفات الخلقیة والعقلیة وأفضلها حتی لا یدانیهم سواهم فیها, وبهذه الصفات تطمئن إلیهم القلوب وترکن الیهم النفوس.
خامسا: الدليل علی وجوب عصمة الأنبياء:
الأول: أن العلة التي أحوجتنا الی وجود الأنبياء هي عدم عصمة الخلق , فلو کان الأنبياء غیر معصومين, لکانوا هم أيظا محتاجون الی مسدد یسددهم ویمنعهم عن خطئهم وینبههم علی نسیانهم. وذلک المسدد هو أيظا إذا لم يكن معصوما احتاج الی مسدد وهکذا.. ویأدي ذلك الی وجود أنبیاء لا نهایة له أو وجوب الانتهاء الی معصوم , وامتناع التسلسل یوجب عصمتهم !
الثاني: لو لم یکن النبي معصوما لجازعلیه فعل المعصیة والخطأ والنسیان, وحینئذ وجب علینا إما طاعته واتباعه في فعله الصادر منه عصيانا أو خطأ، أو لا يجب . فإن قلنا وجب طاعته, فقد جوزنا فعل المعاصي برخصة من الله تعالى لقوله:{ وما آتاكم الرسول فخذوه }، وهذا باطل بضرورة الدين العقل . وإن قلنا لم تجب طاعته , فذلك ينافي غاية النبوة والتي لا بد أن تقترن بوجوب الطاعة أبدا , وتکون إذن بعثته عبثا !
الثالث: وجب أن يكون معصوما من أول عمره إلى آخره ، وذلك لعدم انقياد القلوب إلى طاعة من عهد منه في سالف عمره أنواع المعاصي كالكذب مثلا, لأنه إذا جازت عليه المعصية لم يحصل لنا الوثوق بصحة قوله لجواز الكذب عنه, وإذا لم يحصل الوثوق, لم يحصل الانقياد لأمره ونهيه , فتنتفي بذلك فائدة بعثه !
الرابع: لو أنه جاز عليه فعل المعصية, لوجب إیذاؤه والتبري منه , لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، والله قد نهى عن ایذاء النبي لقوله:{ ان الذین یؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنیا والآخرة }.
الخامس: لو أنه جاز علیه العصیان, للزم سقوط محله من القلوب وانحطاط درجته عند الناس وتکون شهادته مردودة لقوله تعالی:{ إن جائکم فاسق بنبأ فتبینوا }, والنبي أسوة وراع لأمته , وصدور الذنب من الراعي أفحش من ذنب الرعیة . فوجب إذن عصمته !
سادسا: عقيدتنا في صفات النبي:
أولا : يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات، لما في ذلك من النقص الموجب لسقوط محله من القلوب . وقد قيل بأن آباء النبي(ص) من آدم إلى عبد الله(ع) كانوا واحدا وخمسين رجلا , على عدد ركعات الصلاة اليومية ، سبعة عشر كانوا أنبياء , وسبعة عشر كانوا أوصياء , وسبعة عشر كانوا ملوكا !
قال الله تعالى:{ الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين}.
وقال رسول الله(ص):" ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني الله تعالى إلى عالمكم هذا ".
ثانيا: يجب أن يكون أفضل أهل زمانه وأكملهم , لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا.
قال الله تعالى:{ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون}. يونس ٣٥
فلما كان المطلوب للنبي هو إقبال القلوب عليه وانقياد الخلق التام إليه ، وجب أن يكون متصفا بأحسن المحامد وأفضلها حتى لا يدانيه بشر سواه فيها, من كمال العقل والذكاء والفطنة ، وعدم السهو وقوة الرأي وحسن التدبير، والشهامة والنجدة والسماحة ، والغيرة والرأفة والرحمة والتواضع , واللين والصدق والعدالة والسخاء , والكرم والجود والإيثار، والشجاعة والورع والأمانة ، والوفاء والزهد والصبر، والعلم والمعرفة والتنبیه للأمور بأیسر دلیل، وأن یکون قادرا علی وجوه الکلام في الإفهام.. وغير ذلك.
ووجب أن يكون منزها عما يوجب التنفير عنه , من الرذائل الخلقية والعيوب الخلقية , كالحقد والجهل والحسد والفضاضة والغلظة والبخل والجبن والمجون.. وسلامته من العيوب الواضحة كالبرص والجذام والجنون والبكم والبله والأبنة وسلس الريح.. لأنه لو لا ذلك لما صح أن تكون له الرئاسة العامة على جميع الخلق وإدراة شؤونهم !
وأما ما ورد في الكتاب العزيز والأخبار مما يوهم صدور الذنب عنهم, فمحمول على ترك الأولى، جمعا بين ما دل العقل عليه وبين صحة النقل, مع أن جميع ذلك قد ذكر له وجوه ومحامل في مواضعه . فعلى المحقق الرجوع إلى كتاب تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى( ره).
سابعا: الدلالة على نبوة نبينا محمد(ص):
قال الله تعالی:{ وما ینطق عن الهوی إن هو إلا وحي یوحی} النجم ٤
إن الدلالة على صحة نبوته(ص), يحتاج إلى بيان أمور ثلاثة:
الأول: أنه ادعى النبوة .
الثاني: أنه ظهر المعجز على يديه .
الثالث: أنه كل من كان كذلك فهو نبي حقا .
وأما ظهور المعجز على يديه فهي على قسمين:
الأول: ما هو الآن موجود، وهو القرآن الكريم:
فمعجزة نبينا الخالدة هي القرآن العزيز, المعجز ببلاغته وفصاحته والذي تحدى به الجميع وطلب منهم الاتيان بمثله فلم يقدروا على ذلك، وعجزت عنه مصاقع الخطباء من العرب العرباء , ذلك في وقت كان فن البلاغة جدا مشهورا , وكان المألوف من كلام العرب هو الخطب والرسائل والشعر, وكان البلغاء هم المقدمون عند الناس بحسن بيانهم وسمو فصاحتهم .
فجاء القرآن كالصاعقة لهم , فأذلهم وأدهشهم وتحداهم قائلا:{ فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}. ثم اقتصر على سورة واحدة في التحدي بقوله:{ فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين}. ثم احتج بعجزهم عن ذلك بقوله:{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } !
وعندما سمع الوليد بن مغيرة القرآن، قال: سمعت الشعر وليس بشعر، والرجز وليس برجز، والخطب وليس بخطب ، وليس له اختلاج الكهنة ، فقالوا له: أنت شيخنا فإذا قلت هذا ضعفت قلوبنا، ففكر وقال: قولوا هو سحر, معاندة وحسدا للنبي(ص). فأنزل الله تعالى هذه الآيات:{ إنه كان لآياتنا عنيدا , سأرهقه صعودا , إنه فكر وقدر, فقتل كيف قدر, ثم قتل كيف قدر, ثم نظر, ثم عبس وبسر, ثم أدبر واستكبر, فقال إن هذا إلا سحر يؤثر}.
ولما تعذر عليهم معارضته وعجزوا عن مجاراته وقصروا عن اللحاق بغباره , عدلوا إلى محاربته ومسايفته , ولجأوا إلى المقاومة بالسنان دون اللسان, الشيء الذي حصد أرواحهم وأهلك أموالهم وسبى ذراريهم ونسائهم .
فلما علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحديه لهم, علمنا أن القرآن الذي جاء به نبي الإسلام صلى الله عليه وآله مقرونا بدعوى الرسالة, هو من نوع المعجزة !
الثاني: ما هو منقول بالتواتر أو النقل المشتهر:
منها انشقاق القمر, وذلك ليلة أربع عشر من ذي الحجة ، اجتمع الناس عنده وقالوا ما من نبي إلا وله آية فما آيتك في هذه الليلة ؟ فقال: الذي تريدون ، فقالوا: إن كان لك عند ربك قدر, فمر القمر أن ينقطع قطعتين, فهبط الأمين جبرئيل(ع) وقال: يا محمد(ص) إن الله يقرئك السلام ويقول لك إني أمرت كل شئ بطاعتك , فرفع(ص) رأسه وأمر القمر أن ينقطع قطعتين فصار قطعتين , فسجد النبي شكرا لله تعالى، وقال للقمر: عد كما كنت, فعاد والناس ينظرون إلى ذلك. ثم أعرض أكثرهم وقالوا: سحر القمر سحر القمر. فأنزل الله عز وجل:{ اقتربت الساعة وانشق القمر* وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر).
ومن ذلك تكثير الماء القليل، وقد وقع مرارا: تارة بوضع يده فيه وخروجه من بين أصابعه , كما جرى في ميضاة أبي قتادة(الميضاة ، المطهرة يتوضأ منها). وفي رواية أبي قتادة: كان يتفجر الماء من بين أصابعه لما وضع يده فيها , حتى شرب الماء الجيش العظيم وسقوا وتزودوا وذلك في غزوة بني المصطلق .
وتارة بتمضمضه منه ومج مضمضته فيه ، كما جرى في الوشل في غزاة تبوك (الوشل, حجر أو جبل يقطر منه الماء قليلا قليلا ). قال الراوي: ثم نزل(ص) فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ، ثم نضحه به ومسحه بيده ، ودعا رسول الله(ص) بما شاء الله أن يدعو به ، فانخرق من الماء – كما يقول من سمعه – ما إن له حسا كحس الصواعق ، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه .
وتارة بغرز سهم من سهامه فيه , كما جرى في بئر الحديبية حين أمر أبا قتادة الأنصاري بغرز السهم فيها فصعد ماؤها حتى شرب منه بالأكف.
ومن ذلك إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وقد اتفق ذلك في مواطن: منها حين نزل:{ وأنذر عشيرتك الأقربين} أمر(ص) عليا(ع) أن يشوي شاة ويتخذ عسا من لبن(العس, القدح والاناء الكبير) وأن يدعو بني أبيه وكانوا أربعين رجلا ، فأكلوا ولم يبن في الطعام إلا أثر أصابعهم , وشربوا جميعا والعس بحاله ، حتى قال بعضهم سحركم به محمد . وفعل أيظا مثل ذلك في اليوم الثاني والثالث.
ومنها أن جابرا قال: رأيت محمدا(ص) خميصا ونحن في الخندق ، فشويت له عناقا( الأنثى من أولاد المعز قبل استكمالها الحول) ، وأمرت المرأة أن تخبز صاعا من شعير، ثم دعوته فقال: أنا وأصحابي؟ فقلت: نعم . ثم قلت للمرأة: هي الفضيحة , فقالت: أنت قلت له ذلك ؟ فقلت: بل هو قال: أنا وأصحابي ؟ فقلت: نعم . فقالت: هو أعلم بما قال . ثم أخبرته(ص) بالصاع والعناق ، فقال: أقعد عشرة عشرة ، ففعلت فأكلوا جميعا حتى صدروا .
ومن ذلك أن النعمان الأنصاري ضرب فسقطت عينه ، فأتاه بها ، فردها ، فكانت أقوى عينيه. وكانت تعتل الباقية ولا تعتل المردودة !
ومن ذلك حنين الجذع إلى النبي(ص), وذلك أنه(ص) كان يخطب بالمدينة إلى بعض الأجذاع ، فلما كثر الناس واتخذوا له منبرا وتحول إليه ، حن إليه الجذع كما تحن الناقة إلى فصيلها ، فلما جاء إليه والتزمه كان يئن أنين الصبي الذي يسكت. وفي رواية: فاحتضنه(ص) فقال: لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ".
ومن ذلك تسبيح الحصا ، ومجئ الشجرة إليه تخد الأرض خدا ثم أمرها بالعود فعادت ، وتكليمه الذئب والثعبان والجان والضب والظبية والطير والناقة والحمار، وكلام الذراع المسموم, وأمر النخلتين بالاجتماع فاجتمعتا حتى تخلى تحتهما ، وإدرار شاة أم معبد حين مسحها بيده ولم تكن قبله بسنة درت, وعبوره مع جيشه على الماء ، وغوص قوائم ابن مالك في الصحراء حين تبعه قاصدا به السؤ , والتصاق الصخرة بيد أبي جهل حين هم أن يرميه بها , وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
ومن ذلك إجابة دعواته كقوله لعلي(ع) في غزاة خيبر:" اللهم افتح على يديه ". ولعبد الله بن عباس:" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". فخرج بحرا في العلم وحبرا للأمة. ولعتبة بن أبي لهب:" اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ". فسلط الله عليه الأسد فمضغه .
ومن ذلك إخباره بالغائبات كقوله لعلي(ع):" سيغدر بك ". وقوله:" إن أشقى الناس رجلان: أحيمر ثمود عاقر الناقة ، ورجل يضرب هذه – وأشار إلى رأسه(ع) فيبل منها هذه – وأشار إلى لحيته ـ وقوله:" إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ". وإخباره(ص) أن الحسين(ع) يقتل ، وإبانته عن موضع مقتله وموضوع مدفنه .
وإخباره(ص) باذام عامل كسرى على اليمن, حين ورد عليه يحمله قهرا إلى كسرى:" إن ربي سلط ابن ربك عليه ، فقتله في هذه الساعة ، فتربص باذام حتى ورد الخبر بقتله في تلك الساعة من تلك الليلة ، فأسلم هو ومن معه .
ثامنا: بعض النصوص في هذا المضمار:
قال الإمام علي(عليه السلام) في اختيار الأنبياء:" وَاصْطَفى سُبْحَانَهُ مِنْ ـ وَلَدَ آدم ـ أَنْبيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَعَلَى تَبْليغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ ، واتَّخَذُوا الأنداد مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرفَتِهِ، وَاقتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ ، فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ : مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَالٍ تُفْنِيهمْ، وَأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخْلِ اللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلاَ كَثْرَةُ المُكَذِّبِينَ لَهُمْ: مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ. عَلَى ذْلِكَ نَسَلَتِ القُرُونُ، وَمَضَتِ الدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ الأباء، وَخَلَفَتِ الأبناء . إِلَى أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً(ص) لإنجاز عِدَتِهِ وَتَمامِ نُبُوَّتِهِ، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلادُهُ ، وَأهْلُ الأرض يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِِ بِخَلْقِهِ، أَوْ مُلْحِدٍ في اسْمِهِ، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرهِ، فَهَدَاهُمْ بهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ بمَكانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ. ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لُِمحَمَّدٍ صلى الله عليه لِقَاءَهُ، وَرَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَرَغِبَ بِهَ عَنْ مُقَارَنَةِ البَلْوَى، فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً، وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأنبياء في أُمَمِها، إذْ لَم يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً، بِغَيْر طَريقٍ واضِحٍ، ولاَ عَلَمٍ ضچ قَائِمٍ ".
قال الرضا(ع):" إنّ الله تبارک وتعالی لما بعث موسی(ع) کان الأغلب علی أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم یکن في وسع القوم مثله وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجة علیهم.. وإنّ الله تبارک وتعالی بعث عیسی في وقت ظهرت فیه الزمانات وآحتاج الناس الی الطبّ، فأتاهم من عند الله عز وجل بما لم یکن عندهم مثله وبما أحیی لهم الموتی وأبرأ الأکمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة علیهم. وإنّ الله تبارک وتعالی بعث محمدا في وقت کان الأغلب علی أهل عصره الخطب والکلام.. فأتاهم من کتاب الله عز وجل ومواعظه وأحکامه ما أبطل به قولهم، وأثبت الحجة علیهم.."
عن أبي عبد الله(ع) أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الانبياء والرسل ؟ قال:" إنه لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه ، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفى تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز، وهم الانبياء عليهم السلام وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شئ من أحوالهم , مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والانبياء من الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته ".
تاسعا: خاتمـة أصل النبوة :
قال الله تعالى:{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} النساء ١٦٤
إعلم أن مجموع الأنبیاء: ١٢٤ ألف نبي, و٣١٣ مرسلون مع النبوة , و١٠٤ کتاب( وهي صحف شیث بن آدم خمسین صحیفة, وصحف إدریس ثلاثین صحیفة، وصحف ابراهیم عشرین صحیفة، وتوراة موسی، وزبور داود(مخصص للدعاء)، وانجیل عیسی، وفرقان محمد(ص).
والأنبياء والرسل الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن المجيد( ٢٧ ), وهم عليهم السلام:( آدم ، نوح ، أدريس ، هود ، صالح ، إبراهيم ، لوط ، إسماعيل ، اليسع ، ذو الكفل ، الياس ، يونس ، اسحق ، يعقوب ، يوسف ، شعيب ، هارون ، داود ، سليمان ، أيوب ، زكريا ، يحيى ، إسماعيل، عيسى ، موسى ، ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) .وسادات الأنبياء هم أولي العزم الخمسة:( نوح ، إبراهيم ، موسى ، عيسى ، ومحمد صلاة الله عليهم وآلهم أجمعين).
واعلم أنه يجب أن نؤمن بجميع الأنبياء والمرسلين قال تعالى:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. وعلى هذا, المكذب لواحد منهم يكون مكذب لهم جميعهم لأن دينهم واحد ودعوتهم واحدة وكلمتهم متفقة على توحيد الباري جلت قدرته.
كما يجب أن نؤمن بأن الإسلام هو أخر الأديان السماوية وهو ناسخ لجميع الأحكام السابقة ومبين حقيقة تعاليم الله تعالى, وغيره من المتبقي بيد غير المسلمين هي شرائع محرفة غير مقبولة عند الله تعالى.
قال سبحانه:{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران ٨٥

ليست هناك تعليقات: