اللهم صل على محمد وال محمد --- aboutaqua@yahoo.it --- اللهم صل على محمد وال محمد

الأصل الثاني للدين: العدل الإلاهي

المـقدمـــــــــــــــة:
قال الله تعالى:{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الأنعام١١٥
وقال سبحانه:{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} النحل ٩٠
العدل: لغة هو: التسوية بين الشيئين, إعطاء كل مستحق حقه, وهو حسن عقلاً وشرعاً وعرفاً.
وضده الظلم: وهو منع شيء من الإستحقاق عن مستحقه وهو قبيح عقلاً وشرعاً وعرفاً .
وعند المتكلمين هو: العلم المتعلق بتنزيه ذات الباري عن فعل القبيح والاخلال بالواجب.
اعلم أن أصل العدل, أصل عظيم تبتنى عليه جل القواعد الإسلامية ، بل الأحكام الدينية مطلقا, وبدونه لا يتم شئ من الأديان .
والإمامية أعزهم الله, تعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنه عادل غير ظالم ، فلا يجور في قضائه ولا يحيف في حكمه ، يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين، ولا يكلف عباده ما لا يطيقون ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقون .
وتعتقد أنه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة ولا يفعل القبيح ، لأنه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح مع فرض علمه بحسن الحسن وقبح القبيح وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح ، فلا الحسن يتضرر بفعله حتى يحتاج إلى تركه ، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله .
وهو مع كل ذلك حكيم لا بد أن يكون فعله مطابقا للحكمة وعلى حسب النظام الأكمل .
فلو كان يفعل الظلم والقبح ـ تعالى الله عن ذلك - فإن الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور:
1 - أن يكون جاهلا بالأمر, فلا يدري أنه قبيح .
2 - أن يكون عالما به, ولكنه مجبور على فعله وعاجز عن تركه .
3 - أن يكون عالما به وغير مجبور عليه, ولكنه محتاج إلى فعله .
4 - أن يكون عالما به وغير مجبور عليه ولا محتاج إليه, فينحصر فعله له إذن في أن يكون تشهيا وعبثا ولهوا .
وكل هذه الصور محال على الله تعالى, وتستلزم النقص فيه وهو محض الكمال ، فيجب أن نحكم أنه منزه عن الظلم وفعل ما هو قبيح .
قال تعالى:{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } آل عمران ١٨
أما الأشاعرة: فقد جوزوا عليه تعالى فعل القبيح تقدست أسماءه ، فجوزوا أن يعاقب المطيعين ويدخل الجنة العاصين بل الكافرين ، وجوزوا أن يكلف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه ومع ذلك يعاقبهم على تركه ، وجوزوا أن يصدر منه الظلم والجور والكذب والخداع, وأن يفعل الفعل بلا حكمة ولاغرض ولا مصلحة ولا فائدة , بحجة أنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
فرب هؤلاء , الذي صوروه على عقيدتهم الفاسدة ، ظالم جائر سفيه لاعب كاذب مخادع يفعل القبيح ويترك الحسن الجميل. وهذا هو الكفر بعينه. وقد قال تعالى في محكم كتابه:{ وما الله يريد ظلما للعباد},{والله لا يحب الفساد},{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين}.
سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلا !
وتعتقد الإمامية أنه تعالى لا يكلف عباده إلا بعد إقامة الحجة عليهم ، ولا يكلفهم إلا ما يسعهم وما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون, لأنه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصر في التعليم !
أما الجاهل المقصر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسؤول ومعاقب على تقصيره ، إذ يجب على كل إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية .
وتعتقد الإمامية أنه تعالى لا بد أن يكلف عباده ويسن لهم الشرايع, وما فيه صلاحهم وخيرهم ليدلهم على طرق الخير والسعادة الدائمة , ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم ، ويزجرهم عما فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم .
المبحث الأول: فعل الله تعالى:
أولا: الحسن والقبح العقليين:
العقل قاض بالضرورة , أن من الأفعال ما هو حسن, كرد الوديعة والاحسان والصدق، وبعضها ما هو قبيح, كالظلم والكذب والخيانة . والحسن والقبح على ثلاثة معان:
الأول: كون الشئ صفة كمال كقولنا: العلم حسن ، أو صفة نقص كقولنا: الجهل قبيح .
الثاني: كون الشئ ملائما للطبع, كالمستلذات ، أو منافيا له, كالآلام .
الثالث: كون الحسن ما يستحق على فعله المدح عاجلا والثواب آجلا، والقبيح ما يستحق على فعله الذم عاجلا والعقاب آجلا .
لقد اختلف المتكلمون في هذه المسألة, فقالت الإمامية ومن تابعهم من المعتزلة: إن الحسن والقبح عقليان . فمن الأفعال ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل، كعلمنا بحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، فالحسن حسن في نفسه والقبيح قبيح في نفسه ، وكل عاقل لا يشك في ذلك .
وقالت الأشاعرة: إن الحسن والقبح شرعيان, ولا حسن ولا قبح بمنظار العقل أصلا , فما حسنه الشارع فهو حسن وما قبحه الشارع فهو قبيح .
وهو باطل من وجوه :
الأول: أنهم أنكروا ما علمه كل عاقل من حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار، سواء كان هناك شرع أم لا .
الثاني: لو خير العاقل الذي لم يسمع الشرايع ولا علم شيئا من الأحكام ، بل نشأ في بادية خاليا من العقائد كلها ، بين أن يصدق ويعطى دينارا ، أو بين أن يكذب ويعطى دينارا ، ولا ضرر عليه فيهما ، فإنه يتخير الصدق على الكذب. ولولا حكم العقل بقبح الكذب وحسن الصدق ، لما فرق بينهما ، ولا اختار الصدق دائما .
الثالث: لو كان الحسن والقبح شرعيين, لما حكم بهما من ينكر الشرع ، فإن الملاحدة الذين ينكرون الشرايع والأديان, يحكمون بالحسن والقبح ، مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك .
الرابع: الضرورة قاضية بقبح العبث ، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات في دجلة. أو كمن يبيع متاعا, أعطي في بلده عشرة دراهم، في بلد يحمله إليه بمشقة عظيمة، ويعلم مسبقا أن سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضا. ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات .
الخامس: لو كان الحسن والقبح شرعيين ، لزم توقف وجوب الواجبات على مجئ الشرع . ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء ، لأن النبي عليه السلام إذا ادعى الرسالة ، وأظهر المعجزة ، كان للمدعو أن يقول: إنما يجب علي النظر في معجزتك ، بعد أن أعرف أنك صادق ، فأنا لا أنظر حتى أعرف صدقك, ولا أعرف صدقك إلا بالنظر، وقبله لا يجب علي امتثال الأمر، فينقطع النبي، ولا يبقى له جواب .
السادس: الضرورة قاضية بالفرق بين من أحسن إلينا دائما ومن أساء إلينا دائما ، وبحسن مدح الأول وذم الثاني ، وقبح ذم الأول ومدح الثاني .
ثانيا: الله لا يفعل القبيح:
ذهبت الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة ، إلى أن الله تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب , بل جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب ، ليس فيها ظلم ولا جور ولا عدوان ولا كذب ولا عبث ولا فاحشة , والفواحش والقبائح والكذب والجهل من أفعال العباد, والله تعالى منزه عنها وبرئ منها .
وذهبت الأشاعرة كافة ، إلى أنه ليس في جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب, لأن الفواحش والقبائح كلها صادرة عنه تعالى ، ولا مؤثر في الوجود غيره , وأنه يفعل القبائح بأسرها ، من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان, وقد رضي بها وأحبها .
فلزمهم من ذلك محالات:
منها: أنه يلزم منه امتناع الجزم بصدق الأنبياء ، لأن مسيلمة الكذاب لا فعل له ، بل القبيح الذي صدر عنه هو من فعل الله تعالى عندهم ، فجاز أن يكون جميع الأنبياء كذلك . وإنما يعلم صدقهم لو علمنا أنه تعالى لا يصدر عنه القبيح .
ومنها: أنه يلزم منه تكذيب الله تعالى وعدم الوثوق بوعده ووعيده , لأنه لو جاز منه فعل القبيح ، لجاز منه الكذب ، وحينئذ ينتفي الجزم بوقوع ما أخبر بوقوعه من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، ولا يبقى للعبد جزم بصدقه ، لأنه لو وقع منه أنواع الكذب والشرور في العالم، فكيف يحكم العقل بصدقه في الوعد والوعيد ! .
ومنها: أنه يلزم منه مخالفة الكتاب العزيز, لأن الله تعالى قد نص نصا صريحا في عدة مواضع من القرآن أنه لا يفعل القبيح، قال تعالى:{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء},{ إن الله لا يحب الفساد }،{ إن الله لا يرضى لعباده الكفر}،{ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها },{ ما الله يريد ظلما للعباد}،{ما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} .
ثالثا: الله يفعل لغرض وحكمة:
قالت الإمامية: إن الله تعالى إنما يفعل فعله لغرض وحكمة , ومصلحة ترجع إلى المكلفين, ونفع يصل إليهم , وأنه لم يفعل شيئا عبثا وظلما, وإنما يمرض لمصالح العباد ، ويعوض المؤلم بالثواب.
وقالت الأشاعرة : إنه لا يجوز أن يفعل الله شيئا لغرض من الأغراض, ولا لمصلحة ترجع إلى العباد، فإنه يؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض، بل يجوز أن يخلق خلقا في النار، مخلدين فيها ، من غير حتى أن يكونوا قد عصوا . ولزمهم من ذلك محالات:
منها: أنه يلزم أن يكون الله تعالى لاعبا عابثا في فعله ، فإن العابث هو الذي يفعل لا لغرض ولا لحكمة ، بل مجانا . والله تعالى يقول:{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين},{ ربنا ما خلقت هذا باطلا }. والفعل الذي لا غرض للفاعل فيه , باطل ولعب ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
ومنها: أنه يلزم الطامة العظمى والداهية الكبرى عليهم ، وهو: إبطال النبوات بأسرها ، وعدم الجزم بصدق أحد منهم . بل يحصل الجزم بكذبهم أجمع ، لأن النبوة إنما تتم بمقدمتين:
إحداهما: أن الله تعالى خلق المعجزة على يد مدعي النبوة ، لغرض التصديق .
والثانية : أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق, ومع عدم القول بأحدهما لا يتم دليل النبوة .
فإنه تعالى لو خلق المعجزة لغير غرض التصديق، لم تدل على صدق المدعي، إذ لا فرق بين النبي وغيره . ويكون مدعي النبوة كاذبا، حيث قال: إن الله تعالى خلق المعجزة على يدي لأجل تصديقي ، فإذا استحال عندهم أن يفعل لغرض ، كيف يجوز للنبي عليه السلام هذه الدعوى ؟
ومنها: أنه يلزم منه مخالفة الكتاب العزيز, لأن الله تعالى قد نص في عدة مواضع من القرآن أنه يفعل لغرض وغاية ، لا عبثا ولعبا:{ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين}،{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}،{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}،{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله }،{ ولنبلو أخباركم}. وقولهم بأنه تعالى لا يفعل شيئا لغرض وغاية, ولا لمصلحة ترجع إلى العباد, فيكون خلق العين إذن ليس لغرض الإبصار، ولا الأذن للسماع ، ولا اليد للبطش, ولا خلق النار لغرض الإحراق، ولا الماء للإرواء , ولا الأدوية للشفاء.. وكل هذا مبطل للأغراض والحكم والمصالح كما هو معلوم, ويلزم العبث واللعب. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
رابعا: الله لا يعاقب الغير على فعله تعالى:
ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أن الله تعالى لا يعذب العبيد على فعل يفعله هو فيهم, ولا يلومهم عليه, كما قال سبحانه:{ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } الإسراء ١٥
وقالت الأشاعرة : إن الله تعالى لا يعذب العبد على فعل العبد، بل يفعل الله تعالى فيه الكفر ثم يعاقبه عليه ، ويفعل فيه الشتم والسب له ولأنبيائه ثم يعاقبه عليها ، ويخلق فيهم الإعراض عن الطاعات وعن ذكره وذكر أحوال المعاد ، ثم يقول:{ فما لهم عن التذكرة معرضين}؟ .
وهذا أشد أنواع الظلم وأبلغ أصناف الجور، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . وقد قال تعالى:{ وما ربك بظلام للعبيد},{ وما الله يريد ظلما للعباد},{وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}. وأي ظلم أعظم من أن يخلق في العبد شيئا ويعاقبه عليه ، بل يخلقه أسود ثم يعذبه على سواده ، ويخلقه قصيرا ثم يعاقبه على قصره ، ويخلقه أكمه ويعذبه على ذلك ، ولا يخلق له القدرة على الطيران إلى السماء ، ثم يعذبه بأنواع العذاب لأنه لم يطر !
المبحث الثاني: الغرض من إبتداء الخلق:
أولا: الكلام في اللطف الإلاهي:
اللطف واجب على الباري سبحانه وتعالى, أو لنقل: تكرما ومنا منه على خليقته ينتظر منه اللطف, واللطف هو ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية، وفي عرف المتكلمين, عبارة عما يدعو إلى فعل واجب أو يصرف عن قبيح .
إن ما يتوقف عليه إبقاء الطاعة وارتفاع المعصية, تارة يكون التوقف عليه لازما وبدونه لا يقع الفعل، وذلك القدرة والآلة ، وتارة لا يكون كذلك بل يكون المكلف باعتبار الطاعة المتوقف عليه أدنى وأقرب إلى فعل الطاعة وارتفاع المعصية, وذلك هو اللطف.
واللطف على ضربين: أحدهما أن يقع عنده الواجب, ولولاه لم يقع فيسمى توفيقا. والآخر ما يكون عنده أقرب إلى فعل الواجب أو ترك القبيح, وإن لم يقع عنده الواجب ولا أن يقع القبيح فلا يوصف بأكثر من أنه لطف لا غير.
وما كان المعلوم أنه يرتفع عنده القبيح ولولاه لم يرتفع , يسمى عصمة .
ويجب أن يكون اللطف متقدما للملطوف فيه ليصح أن يكون داعيا إليه وباعثا عليه.
إذا تقرر هذا فاعلم أن اللطف تارة يكون من فعل الله تعالى، فيجب عليه ، وتارة يكون من فعل المكلف فيجب عليه تعالى إشعاره به وإيجابه عليه ، وتارة يكون من فعل غيرهما فيشترط في التكليف العلم به ، وإيجاب الله ذلك الفعل على ذلك الغير وإثباته عليه .
ثانيا: الكلام في التكليف وجمل من أحكامه:
حقيقة التكليف: هو عبارة عن إرادة الأعلى من الأدنى ما فيه كلفة ومشقة على جهة الابتداء !
لا خلاف بين المسلمين بأن التكليف حسن لكونه تعريضا لما لا يصل إليه إلا به , وأن الحكيم تعالى كلف عباده بما يشق عليهم فعله وتركه من فعل الطاعات واجتناب المعاصي, وذلك تعريضا للثواب. ولم يكلف الله تعالى أحدا فوق طاقته . إذ يستحيل عليه, من حيث الحكمة, أن يكلف العبد ما لا قدرة له عليه ولا طاقة له به ، وأن يطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه .
فلا يجوز له مثلا أن يكلف من لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء( الزمانة: العاهة ، عدم بعض الأعضاء)، ولا كونه في المشرق حال كونه في المغرب، ولا الجمع بين الضدين, ولا إحياء الموتى ، ولا إعادة أمس الماضي، ولا إدخال جبل قاف في خرم الإبرة ، ولا شرب ماء دجلة في جرعة واحدة ، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة لذاتها . وأما الأشاعرة فقد جوزوا كل ما ذكرنا, فخالفوا المعقول الدال على قبح ذلك, والمنقول، وهو المتواتر من الكتاب العزيز، قال الله تعالى:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}،{وما ربك بظلام للعبيد}،{ولا يظلم ربك أحدا }.. والظلم هو إضرار غير المستحق، وأي إضرار أعظم من هذا ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
ما الغرض من التكليف: وقبل ذلك نبين ما وجه الحسن في ابتداء الخلق:
لا يخلو أن يكون في ابتداء الخلق غرض أو لا غرض فيه ، فإن كان لا غرض فيه فهو عبث، وذلك قبيح لا يجوز عليه تعالى . وإن كان فيه غرض, لا يخلو أن يكون فيه غرض قبيح أو غرض حسن، فالغرض القبيح هو أن يقصد بخلق الخلق الإضرار بهم، وذلك قبيح لا يجوز على الحكيم، والغرض الحسن لا يكون إلا بحصول النفع فيه. وذلك النفع لا يخلو أن يكون راجعا إليه تعالى أو إلى غيره ، فما يرجع إليه تعالى مستحيل لاستحالة النفع عليه ، وما يرجع إلى الغير هو وجه الحسن في ابتداء الخلق، سواء كان ذلك النفع راجعا إلى نفس المخلوق أو إلى غيره أو إليهما ، فإن جميع ذلك وجه الحسن إذا تعرى من وجوه القبح . فإذا ثبت ذلك فالمكلف منفوع بالتفضيل ومنفوع بالثواب، وإن كان المعلوم أنه يؤلم لمصلحته أو مصلحة غيره فهو منفوع أيضا بالعوض، فتجتمع فيه الوجوه الثلاثة(بالتفضيل وبالثواب وبالعوض). فإذا ثبت ذلك فالوجه في حسن التكليف أنه تعريض لمنزلة عظيمة لا يمكن الوصول إليها إلا بالتكليف .
وإنما قلنا في التكليف إنه تعريض للثواب لأنه لا يخلو أن يكون فيه غرض أو لا غرض فيه ، فإن لم يكن فيه غرض, كان عبثا, وذلك لا يجوز عليه تعالى . وإن كان فيه غرض لم يخل أن يكون الغرض نفعه أو مضرته ، ولا يجوز أن يكون الغرض مضرته لأن ذلك قبيح ، فلم يبق إلا أن يكون غرضه نفعه .
صفات المكلف تعالى: يجب أن يكون حكيما مأمونا منه فعل القبيح والاخلال بالواجب ليعلم انتفاء وجه القبح عن هذا التكليف. ويجب أن يكون قادرا على الثواب الذي عرض بالتكليف له وعالما بمبلغه, ولا بد أن يكون له غرض في التكليف. ويجب أن يكون منعما بما يجب له به العبادة ، والعبادة لا تستحق إلا بأصول النعم من خلق الحياة والشهوة والبقاء والقدرة وكمال العقل وخلق المشتهي وغير ذلك.
صفات الفعل الذي يتناوله التكليف: وأما الفعل الذي يتناوله التكليف فلا بد أن يصح إيجاده من المكلف على الوجه الذي كلفه ، لأن ذلك يمكن لا يحسن التكليف من دونه . ومن شروطه تقوية دواعيه بفعل اللطف مما لا ينافي التكليف، ولا بد أن يكون ما تناوله التكليف مما يستحق به المدح والثواب، لأن وجه حسن التكليف إذا كان هو التعريض للثواب لم يجز أن يتناول إلا ما يستحق به الثواب.
صفات المكلف: المكلف هو الحي، لأن من ليس بحي لا يحسن تكليفه , ويسمى الحي" انسانا " وفي الملائكة والجن بأسماء أخر، والفلاسفة تسميه " نفسا ".. فإذا ثبت أن الحي هذه الجملة(النفس), فالصفات التي تجب أن يكون عليها المكلف شيئان:
أولهــما: أن يكون قادرا ليتمكن من فعل ما كلفه ولا يكون مكلفا لما لا يطيق .
وثانيهما: أن يكون عالما أو متمكنا من العلم به فيما يحتاج إلى العلم به من جملة ما كلفه من أحكام الأفعال أو إيقاعه على وجه مخصوص ليستحق به الثواب، وكذلك يستحق الثواب على ترك القبيح إذا تركه لقبحه ، وذلك لا يتم إلا مع العلم بقبحه أو التمكن من العلم به بنصب الأدلة عليه.
ولما كانت علومه لا يصح حصولها إلا مع كمال عقله وجب أن يخلق فيه العقل ، والعقل هو مجموع علوم إذا اجتمعت كان الحي عاقلا ، وإذا حصل بعضها أو لم يحصل شي أصلا لم يكن عاقلا . وسمي العقل عقلا لأن به يمتنع من كثير من المقبحات، فشبه بعقال الناقة التي تمنعها من السير.
ويجب أن يكون المكلف مشتهيا ونافرا ، لأن الغرض إذا كان التعريض للثواب فلا يصح استحقاق الثواب إلا على ما يلحق فيه المشقة ، فلا يصح ذلك إلا بأن يكون نافر الطبع عما كلف فعله ومشتهيا لما كلف الامتناع منه ، ولهذا نقول لا بد أن يكون على المكلف مشقة في نفس الفعل أو شبهه أو أمر يتصل به . ويجب أيضا أن لا يكون ملجأ فيما كلف ، لأن الغرض بالتكليف استحقاق المدح والثواب، والالجاء لا يثبت معه استحقاق مدح .
فإذا حكمنا بحسن تكليف من علم الله أنه يؤمن وجب مثل ذلك في تكليف من علم أنه يكفر ، والفرق بين التكليفين لا يرجع إلى اختيار الله بل إلى اختيار المؤمن للإيمان فيحصل نفعه ، واختيار الكافر الكفر فاستضر به ، فأتى في ذلك من قبل نفسه . وأما القدر الذي يكون بين زمان التكليف وبين الثواب فليس بمحصور عقلا بل بحسب ما يعلمه الله تعالى ، وإنما يعلم على طريق الجملة أنه لا بد من تراخ ومهلة, فإذا ثبت وجوب انقطاع التكليف فليس الوقت وقت انقطاعه بزمان بعينه بل نوجبه على سبيل الجملة .
ثالثا: الكلام في الآلام والأعواض:
ذهبت الإمامية: إلى أنه يجب على الله تعالى فعل عوض الآلام الصادرة عنه .
والألم الذي يفعله الله تعالى بالعبد على ضربان: قبيح , وحسن:
أما القبيح: وهو ما يكون على وجه الانتقام والعقوبة: فهو من فعلنا خاصة, وهو المستحق ولا عوض لنا فيه, فيجب على الباري فيه الانتصاف منا, وذلك لعدله تعالى، ويكون الألم هنا مساويا للألم هناك لا زائدا عنه, وإلا لكان ظالما, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
قال تعالى:{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين}.
وأما الحسن: وهو ما يكون على وجه الابتداء والنفع, فيجب فيه أمران:
الأول: أن يشتمل على اللطف, بمصلحة للمتألم أو لغيره , لأنه لولا ذلك لكان عبثا .
الثاني: أن يشتمل على العوض, عوض للمتألم يزيد على الألم, لأنه لولا ذلك لكان ظلما .
والعوض يجب أن يكون زائدا على الألم إلى حد الرضا عند كل عاقل، لأنه يقبح إيلام شخص بغير مصلحة ولا فائدة تصل إليه, لتعويضه عوض ألمه من غير زيادة , وذلك لاشتماله على العبثية.
ووجه حسن بعض الآلام: العوض الزائد، بحيث يختاره المكلف مع الألم لو عرض عليه .
فبالعوض الزائد يخرج سبحانه عن الظلم ، وباللطف يخرج عن العبث .
وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فجوزوا: أن يؤلم الله عبده ، بأنواع الألم من غير جرم ولا ذنب ، ولا لغرض وغاية ، ولا يوصل إليه العوض، ويعذب الأطفال والأنبياء والأولياء ، من غير فائدة ولا يعوضهم على ذلك بشئ ألبتة !
مع أن العلم الضروري حاصل لنا ، بأن من فعل من البشر مثل هذا عده العقلاء ظالما جائرا سفيها, فكيف يجوز للإنسان نسبة الله تعالى إلى مثل هذه النقائص !
وقد ذكروا لحسن الألم وجوه:
الأول : كونه مستحقا .
الثاني : كونه مشتملا على النفع الزائد العائد إلى المتألم .
الثالث : كونه مشتملا على دفع الضرر الزائد عنه .
الرابع : كونه بما جرت به العادة .
الخامس: كونه مشتملا على وجه الدفع .
وهنا فوائد:
الأولى: العوض هو النفع المستحق الخالي من تعظيم وإجلال, فبقيد المستحق خرج التفضل، وبقيد الخلو عن التعظيم خرج الثواب .
الثانية: لا يجب دوام العوض لأنه لا يحسن في الشاهد ركوب الأهوال الخطيرة ومكابدة المشاق العظيمة لنفع منقطع قليل .
الثالثة: العوض لا يجب حصوله في الدنيا ، لجواز أن يعلم الله المصلحة في تأخيره بل قد يكون حاصلا في الدنيا وقد لا يكون .
الرابعة: الذي يصل إليه عوض ألمه في الآخرة ، إما أن يكون من أهل الثواب ، أو من أهل العقاب. فإن كان من أهل الثواب, فيكفيه إيصاله أعواضه إليه بأن يفرقها الله تعالى على الأوقات، أو يتفضل عليه بمثلها. وإن كان من أهل العقاب, أسقط لها جزء من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يفرق القدر على الأوقات .
الخامسة: الألم الصادر عنا ، إما بأمره تعالى أو إباحته, والصادر عن غير العاقل كالعجماوات, وكذا ما يصدر عنه من تفويت المنفعة لمصلحة الغير, وإنزال العموم الحاصلة من غير فعل العبد, يجب عوض كله على الله تعالى لعدله وكرمه.
المبحـث الثالـث: أفعال العباد:
أولا: الكلام في الإرادة:
ذهبت الإمامية وجميع المعتزلة إلى أن الإنسان مريد لأفعاله ، بل كل قادر هو مريد ، لأنها صفة تقتضي التخصيص ، وأنها نفس الداعي . وخالفت الأشاعرة في ذلك ، فقالوا:" لا مؤثر في الوجود إلا الله ", وأن الفعل إنما هو صادر عن الله تعالى ومستندا إليه, وإرادة الإنسان هي صفة زائدة عليه.
قالت الإمامية: إن الله تعالى أراد الطاعات ولم يرد المعاصي، سواء وقعتا أم لا, وكره المعاصي ولم يكره الطاعات، سواء وقعتا أم لا. وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك ، فذهبوا إلى أن الله تعالى يريد كل ما وقع في الوجود, سواء كان طاعة أو معصية، وسواء أمر به أو نهى عنه. وكره كل ما لم يقع , سواء كان طاعة أو معصية ، وسواء أمر به أو نهى عنه . فجعلوا كل المعاصي الواقعة في الوجود مثل الشرك والظلم والجور وأنواع الشرور مرادة من الله تعالى!
وهذا القول يلزم منه محالات:
منها: نسبة القبيح إلى الله تعالى، لأن إرادة القبيح قبيح، وكراهة الحسن قبيح، وقد بينا أعلاه أنه تعالى منزه عن فعل القبايح كلها .
ومنها: كون العاصي مطيعا بعصيانه ، حيث أوجد مراد الله تعالى وفعل وفق مراده .
ومنها: كونه تعالى يأمر بما يكره ، لأنه أمر الكافر بالإيمان ، وكرهه منه ، حيث لم يوجد ، وينهى عما يريد ، لأنه نهاه عن الكفر، وأراده منه . وكل من فعل ذلك من أشخاص البشر ينسبه كل عاقل إلى السفه والحمق ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
ومنها: مخالفة النصوص القرآنية ، الشاهدة بأنه تعالى يكره المعاصي، ويريد الطاعات ، كقوله تعالى:{ وما الله يريد ظلما للعباد}،{ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها}،{ ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم }،{ والله لا يحب الفساد}.
وقالت الإمامية: بأن إرادة النبي(ص) موافقة لإرادة الله تعالى, فالنبي يريد من الطاعات ما يريده الله تعالى، ويكره من المعاصي ما يكرهه الله عز وجل، وأنه لا يخالفه في الإرادة والكراهة إطلاقا. وأن الله تعالى قد أراد من الطاعات ما أراده أنبياؤه وكره ما كرهوه .
وقالت الأشاعرة بخلاف ذلك: أن النبي يريد ما يكرهه الله تعالى, ويكره ما يريده الله تعالى .
لأنه سبحانه أراد من الكافر الكفر ومن العاصي العصيان, والنبي أراد منهم الطاعات ، فخالفوا بين مراد الله تعالى وبين مراد النبي . وأن الله كره من العاصي الطاعة ومن الكافر الإيمان، والنبي أرادهما منهما، فخالفوا بين كراهته تعالى وكراهة النبي .
نعوذ بالله تعالى من مذهب يؤدي إلى القول بأن مراد النبي يخالف مراد الله تعالى، وأن الباري جلت قدرته لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه .
ثانيا: الكلام في الإستطاعة:
معنى القدرة: القادر, هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك . قادرعلى إيجاد الفعل وقادر على ترك نفس الفعل, فالقدرة صالحة للإيجاد والترك أيظا !
والقدرة التي للعبد متقدمة على الفعل, دون أن تكون مصاحبة له ، بدلالة أن القدرة يحتاج إليها ليخرج بها الفعل من العدم إلى الوجود..
إن الواحد منا قادر على الفعل ، بدلالة صحة الفعل منه وتعذره على غيره من الأحياء مع مساواتهما في جميع الصفات. فيجب من ذلك أن يكون الواحد منا قادرا بقدرة وهذه القدرة تتعلق بالشئ وبمثله وبخلافه وبضده , بدلالة أن الواحد منا متى كان قادرا صح أن يتصرف في جميع ذلك . ألا ترى أن من قدر على أن يتحرك يمنة قدر أن يتحرك يسرة ، والحركة في الجهتين متضادين ، وكذلك من قدر على الحركة قدر على الاعتماد والصوت والتأليف وهذه الأشياء مختلفة ، وكذلك من قدر على الاعتقادات قدر على سائر أجناسها وقدر على الإرادة والكراهة وهذه الأشياء مختلفة ومتضادة . فدل ذلك على أن القدرة تتعلق بالشئ وبمثله وبخلافه وضده إذا كان له ضد .
ذهب جميع العقلاء إلى أن القدرة صالحة للضدين، فالقادر على الكفر قادر على الإيمان, والقادر على الطاعة قادر على المعصية . وإنما يختار أحدهما فإن اختار الكفر فبسوء اختياره، ولو كان الكافر غير قادر على الإيمان, للزم تكليف ما لا يطاق, وتكليف ما لا يطاق قبيح, قد نص الله تعالى على امتناعه ، فقال:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.
وخلاصة القول: أن الاستطاعة مكتسبة من الله تعالى, سواء للفعل معه أو قبله لإعداد مقدماته , والإنسان وغيره بتوسط القوة التي تعطى له من الله تعالى, يفعل أفعاله جميعها ولا يمكنه فعل شيء بدونها ، بل بدون مدد الله الإنسان والوجود يفنى إذا منع عن شيء من الوجود أو أثار الموجود مهما كان منزلته في الوجود, سواء كان ملك أو نبي أو إنسان عادي أو جن أو شيطان أو حجر أو شجر.. فالكل بحول الله تعالى وقوته موجودون ويستمر وجودهم ويعملون الأعمال وتصدر منهم الآثار. فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تصدر الأفعال من مبادئها و المسببَات من أسبابها وبالقدرة المستمدة منه تعالى في كل آن !
ثالثا: الكلام في أنا فاعلون:
اتفقت الإمامية والمعتزلة على" أنا فاعلون" بالإختيار, وأن المتولد من أفعالنا مستند إلينا, والضرورة قاضية بذلك، للفرق بين سقوط الإنسان من سطح ونزوله منه على الدرج ، وإلا لآمتنع تكليفنا بشئ فلا عصيان، ولقبح أن يخلق الباري الفعل فينا ثم يعذبنا عليه. فجميع الأفعال الصادرة من العبد ، هي كلها واقعة بقدرة العبد وإرادته واختياره , وأنه ليس بمجبور على فعله , بل له أن يفعل وله أن لا يفعل وهو الحق !
وكل عاقل لا يشك في ذلك ، وهذا الحكم مركوز حتى لدى الأطفال والمجانين . فإن الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه ، فإنه يذم الرامي دون تلك الآجرة ، ولولا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذم الرامي دون الآجرة !
وهذا الحكم حاصل حتى في البهائم.. قال أبو الهذيل العلاف:" حمار بشر أعقل من بشر، لأن الحمار إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته ، لم يطاوع على العبور، وإن أتيت به إلى جدول صغير جاز، لأنه فرق بين ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه ، وبشر لا يفرق بينهما ، فحماره أعقل منه ".
وأما الأشاعرة فقد خالفت في ذلك، إذ نسبوا الأفعال كلها إلى الباري سبحانه لا للمخلوق، وقالوا بأن المتولد من أفعالنا ليس مستند إلينا, بل هو من فعل الله تعالى لأنه:" لا مؤثر في الوجود إلا الله ", وإنما العبد إذا صمم العزم على الشئ , خلق الله تعالى الفعل عقيبه. فلزمهم من ذلك محالات:
منها: أنه يلزم مكابرتهم لضرورة العقل, فإن العاقل يفرق بالضرورة بين ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه كما أسلفنا، وكالحركة يمنة ويسرة والبطش باليد، وبين الحركة الاضطرارية، كالوقوع من شاهق ، وحركة المرتعش وحركة النبض..الخ
ومنها: أنه يلزم إنكارهم للأحكام الضرورية من حسن مدح المحسن وقبح ذمه ، وحسن ذم المسئ وقبح مدحه . فإن كل عاقل يحكم بحسن مدح من يعين الملهوف ويساعد الضعيف, وأنه يقبح ذمه.
وبقبح مدح من يبالغ في الظلم والجور ونهب أموال الناس، وأن من مدحه على هذه الأفعال عد سفيها ولامه كل عاقل .
روي أن رجلا سأل الإمام الصادق(ع) عن القضاء والقدر، فقال(ع):" ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه ، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله . يقول الله تعالى للعبد: لم عصيت؟ لم فسقت ؟ لم شربت الخمر؟ لم زنيت ؟ فهذا فعل العبد. ولا يقول له: لم مرضت ؟ لم قصرت ؟ لم ابيضضت ؟ لم اسوددت ؟ لأنه من فعل الله تعالى".
ومنها: أنه يلزم تقبيح التكليف, إذ يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا بفعل الطاعات واجتناب المعاصي. لأنه لو لم يكن العبد متمكنا بإرادته من الفعل والترك, والله تعالى خلق فينا فعل الطاعة, لكان واجب الحصول ولم نقدر على الممانعة، وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول ولم نقدر على الطاعة.
ومنها: أنه يلزم أن يكون الله سبحانه أظلم الظالمين, وبيان ذلك, أن الفعل إما أن يقع :
أولا : من العبد لا غير, وهو المطلوب .
ثانيا : أو من الله تعالى، وليس كذلك, إذ يلزم منه الظلم، حيث فعل الكفر وعذب من لا أثر له فيه ألبتة ولا قدرة موجدة له ولا مدخل له في الايجاد, وهو أبلغ أنواع الظلم !
ثالثا : أو منهما بالشراكة، وليس كذلك, إذ يلزم منه الظلم أيظا، لأنه شريك في الفعل، وكيف يعذب الشريك القوي شريكه الضعيف على فعل فعله هو وإياه ؟ وكيف يبرئ نفسه من المؤاخذة مع قدرته وسلطنته، ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعله هو مثله ؟
وأيضا يلزم منه تعجيز الله تعالى, إذ لا يتمكن من الفعل بمفرده ، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد !
رابعا : أو لا من واحد منهما. وهو محال لحتمية وجود واجب الوجود !
ومنها: أنه يلزم مخالفة إجماع الأنبياء والرسل، فإنه لا خلاف في أن الأنبياء أجمعوا على أن الله تعالى أمر عباده ببعض الأفعال، كالصلاة والصوم، ونهى عن بعضها، كالظلم والجور. ولا يصح ذلك إذا لم يكن العبد موجدا لفعله ، إذ كيف يصح أن يقال له: ائت بفعل الصلاة والزكاة ، ولا تأت بالكفر والزنا، مع أن الفاعل لهذه الأفعال والتارك لها هو الله ؟ فإن الأمر بالفعل يتضمن الإخبار عن كون المأمور قادرا عليه , ولو لم يكن المأمور حينها قادرا على المأمور به, لمرض أو سبب آخر ثم أمره ، فإن العقلاء يتعجبون منه وينسبونه إلى الحمق والجهل والجنون.. ويقولون: إنك لتعلم أنه لا يقدر على ذلك ، ثم تأمره به ؟!
ومنها: أنه يلزم مخالفة العقل والنقل ، لأن العبد لو لم يكن موجدا لأفعاله, لم يستحق ثوابا ولا عقابا، بل يكون الله تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير استحقاق منه ، ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة, وذلك يبطل حكمته، وفي نفي الحكمة إلحاقه بالسفهاء والجهال، تبارك الله عن ذلك علوا كبيرا .
ومنها: أنه يلزم مخالفة الضرورة ، لأنه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط ، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه وفعله. ولو جاز ذلك لجوزنا أن يكون فيما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلا للدعوة إلى الزنا والسرقة واللواط وكل القبائح , ومدح الشيطان وعبادته ، والاستخفاف بالله تعالى وشتمه..
ومنها: أنه يلزم مخالفتهم لنصوص القرآن, فهذه مجموعة من الآيات الدالة على" أنا فاعلون" بالإختيار, وأن جميع الأفعال الصادرة عنا هي كلها واقعة بقدرتنا وإرادتنا, ولسنا مجبورين على أفعالنا, بل لنا أن نفعل ولنا أن لا نفعل:
أولا: الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد:{ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم},{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}،{ كل امرئ بما كسب رهين},{ بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل},{ فطوعت له نفسه قتل أخيه},{ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي},{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها},{ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}،{ لنبلوهم أيهم أحسن عملا},{أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.
ثانيا: الآيات الواردة في مدح المؤمن على إيمانه ووعده بالثواب على طاعته:{ هل جزاء الاحسان إلا الاحسان },{ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت}،{ ألا تزر وازرة وزر أخرى }،{ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}،{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}.
ثالثا: الآيات الدالة على ذم الكافر على كفره وتوعده بالعقاب على معصيته:{ومن أعرض عن ذكري}،{أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا},{وماذا عليهم لو آمنوا},{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى}،{ما منعك أن تسجد}،{ما منعك إذ رأيتهم ضلوا}،{فما لهم عن التذكرة معرضين}،{ فما لهم لا يؤمنون}،{لم تلبسون الحق بالباطل}،{لم تصدون عن سبيل الله},{ لم تحرم ما أحل الله لك}. فكيف يجوز أن يقول: لم تفعل ؟ مع أنه ما فعله !
رابعا: الآيات التي أمر الله فيها العباد بالأفعال والمسارعة إليها قبل فواتها:{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}،{ أجيبوا داعي الله وآمنوا به}،{ استجيبوا لله وللرسول}،{ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا}،{اعبدوا ربكم}،{فآمنوا به خير لكم},{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم}،{وأنيبوا إلى ربكم}. فكيف يصح أن يأمر بالطاعة والمسارعة إليها، مع كون المأمور ممنوعا عنها وعاجزا عن الاتيان بها ؟ وكما يستحيل أن يقال للمقعد الزمن:" قم "، ولمن يرمى من شاهق جبل:" احفظ نفسك "، فكذا الأمر ها هنا !
خامسا: الآيات التي ذكر الله تعالى فيها تخيير العباد في أفعالهم، وتعلقها بمشيئتهم:{ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}،{اعملوا ما شئتم},{فسيرى الله عملكم}،{ لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}،{فمن شاء ذكره}،{فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا }. وقد أنكر الله تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه ، وأضافها إلى الله تعالى بقوله:{ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا}،{ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم}.
سادسا: الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به:{ إياك نعبد وإياك نستعين}،{ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم},{استعينوا بالله}. فإذا كان الله تعالى خلق الكفر والمعاصي, فكيف يستعان ويستعاذ به ؟.
سابعا: الآيات الدالة على اعتراف الأنبياء(ع) بذنوبهم وإضافتها إلى أنفسهم, كقول آدم:{ ربنا ظلمنا أنفسنا}، وكقول يونس:{سبحانك إني كنت من الظالمين}، وكقول موسى:{ رب إني ظلمت نفسي}، وكقول يعقوب:{ بل سولت لكم أنفسكم أمرا}، وكقول يوسف:{من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي}، وكقول نوح:{ رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم}. فهذه الآيات تدل على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لأفعالهم .
ثامنا: الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بأن كفرهم ومعاصيهم كانت منهم:{ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ـ إلى قوله ـ بل كنتم مجرمين(سبأ٣٣)}،{ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين}،{ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ـ إلى قوله ـ فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء(الملك9)}،{ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}.{وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل},{ رب ارجعون لعلي أعمل صالحا},{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا},{ أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين}.
المبحث الرابع: القضاء والقدر:
قال الله تعالی:" بديع السماوات والأرض وإذا قضی أمرا فإنما یقول له کن فیکون" البقرة ١١٧
وقال أيظا:" وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر ٢١
أساسا لا یصلح الخوض في هذه المسائل الدقیقة لمن لم یمتلک القابلیة الذهنیة والفکریة اللازمة لمثل هذه الحقائق، إذ طالما یمکن أن یتورط مثل هذا في شک أو تردد في عقیدته، ویقع في الظلال في نهایة المطاف.
وعلى العموم , على العبد أن يؤمن بأن القضاء والقدر خيره وشره وحلوه ومره هو كله من الله , كما ورد في الحديث النبوي:" لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره ".
أولا: معنى القدر:
القدر(أوالأجل غير المحتوم أو غير المسمى , وهو قابل للتغيير, وهو ما يوجد في لوح المحو والإثبات, يتغير ويتبدل ما فيه حسب ما تقتضيه الحكمة الإلاهية قبل وقوعه وتحققه في الخارج).
القدر مأخوذ من المقدار ومن التقدير. يعني تعيين المقادير والقواعد والقوانين والحدود.. التي يتحقق بها وجود الأشياء في موازين معينة وفي أزمنة وأمكنة وشرائط معينة(طبخ العشاء).
وهو بمعنى هندسة الشيء والتخطيط ووضع الحدود والسنن الكونية من البقاء والفناء والطول والعرض..الخ
فلوجود کل مخلوق من المخلوقات , بحکم کونه من الموجودات الممکنة , حدا معینا ومقدارا خاصا من طول وعرض وعمر ولون ونمو وشكل..
ولوجود«الجماد» , حد خاص ومقدار معیّن, ولوجود «النبات» حد خاص ومقدار معیّن آخر.
إذن: هو تقدیر إلاهی للأشیاء , وجعل الشيء في مقياس معين وفي حدود معينة بما تقتضيه الحكمة والمشيئة الربانية.
قال الله تعالی:" إنـّا کل شيء خلقناه بقدر" القمر ٤٩
والقدر أوسع من دائرة القضاء , والقضاء يدور في دائرة القدر. مثل ما أن عندك وعاء فيه عدة أشياء, واحد فقط من هذه الأشياء هو قضاء والبقية قدر!
وهذا التقدیر من جهة کونه فعل الله یسمّی« التقدیر الفعلي أو القدر والقضاء الفعلي »
ومن جهة کون الله یعلم به قبل خلقه یسمّی« التقدیر العلمي أو القدر والقضاء العلمي»
من معاني القدر:
الخلق: (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام).
البيان: (إلا إمرأته قدرناها من الغابرين).
ثانيا: معنى القضاء:
القضاء(أو الأجل المحتوم أو المسمى, وهو غير قابل للتغيير والتبديل, وهو ما يوجد في اللوح المحفوظ(أم الكتاب)).
قضى الشيء يعني أتمه وفرغ منه , الحكم والتمام.. الحتم والجزم به , أي لا بد أن يتحقق ويكون, وقد صار وجوده ووقوعه واجبا لا بد منه , ولا بد من إبرامه وتحققه في الخارج.
هناك قضاء وقدر حتمي بيد الله وخارج عن دائرة الإنسان , وقضاء وقدر بكسب العبد وسعيه.
فالقضاء الإلاهي في مجال فعل الإنسان, هو حتمیته وتحققه القطعي بعد اختیار الإنسان لذلك الفعل بإرادته. وهو أنّ الإنسان متی ما أوجد أسباب وقوع فعل ما، تمّ التنفیذ الإلاهي من هذا الطریق.
قال تعالی:" إنا هدیناه السبیل إما شاکرا وإما کفورا " الإنسان٣
من معاني القضاء:
الخلق: قضاء تكويني( فقضاهن سبع سماوات في يومين).
الحكم والأمر: قضاء تشريعي( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه).
الإخبار: قضاء ما في أعمال الناس(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين).
نضرب مثالا: مقدرات أعمار ثلاث:
٣٠ سنة = قاطع لرحمه + عاق لوالديه
٥٠ سنة = واصل لرحمه + بار بوالديه
٧٠ سنة = واصل لرحمه + بار بوالديه + معطي صدقة السر
فالمتحقق من هذه الأعمار الثلاث(٥٠ سنة مثلا) هو القضاء! والـبقية هي القدر!
قال الله تعالى:" وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ".
وقال أيظا:" هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا(أجل محتوم غير قابل للتغيير وهو مجهول للإنسان وهو المثبت في اللوح المحفوظ وهو المقضي) وأجل مسمى عنده(أجل موقوف ومشروط يعني تقدير قابل للتغيير وهو الموجود في لوح المحو والإثبات)" الأنعام ٢
مثالا أخر: القطار الذي يسير على السكة, باستطاعتك متى أردت تحويل مجرى سيره إلى سكة أخرى.. كذلك الإنسان باستطاعته تغيير مجرى حياته ومجرى القدر إلى طريق أفضل !!
قال الإمام الباقر(ع):« البرّ وصدقة السرّ، ینفیان الفقر ویزیدان في العمر ویدفعان عن سبعین میتة سوء».
وقال الصادق(ع):« إنّ الدعاء يرد القضاء وقد نزل من السماء وقد أبرم إبراما».
ومثالا آخرا: صانع الطاولة يهيء لمصنوعه قطع الخشب والأدوات المعدة لصنعها وهندسة الطاولة , ثم تركب هذه القطع مع بعضها البعض فيصل إلى حد القضاء . أولا يصير التقدير بتهيأة الأوليات , ثم عندما تركب الطاولة تصير قضاء!
نتوقف قليلا عند هذه الآية لتكون لنا درساً بليغاً وصاحباً ومعيناً للرضا بالقضاء بالقدر.. حيث أن استقبال القدر بروح ملؤها الإيمان، ونفس مطمئنة بحكمة الرحمن, لمن أهم سبل جلب الإطمئنان للنفوس، التي تضطرب لأدنى مكروه يحل بها.. وذلك عندما نلتفت إلى مقدمتين: الأولى منها: آية قرآنية وهي: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}.. وأما المقدمة الثانية: فهي حقيقة وجدانية وهي: (إلا ما كتب الله لنا فيه صلاحنا).. فالنتيجة بداهة هي: أنه لن يصيبنا إلا ما فيه مصلحتنا.. فإذا التفت العبد إلى هذه النتيجة، هل يبقى له أدنى اضطراب في أحلك ظروفه ؟!..
فبرباطة الجأش، وقوة العزيمة في تحمل المصائب؛ تتفتح أبواب الفرج، وترسل أنوار الأمل ضياءها، وتنسج ثياب الرحمة سرابيلها , لتعود الحياة تدب في عزيمتنا من جديد !
ثالثا: بعض النصوص:
روي عن أمير المؤمين(ع) أنه عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر, فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفر من قضاء الله؟ فقال(ع): أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل » !
قال رسول الله(ص):" إن الله قدر المقادير ودبر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام ".
جاء رجل إلى أمير المؤمنين(ع) فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال(ع): بحر عميق فلا تلجه ، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال(ع): طريق مظلم فلا تسلكه ، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال(ع): سر الله فلا تكلفه , قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال أمير المؤمنين(ع): أما إذا أبيت فإني سائلك ، أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله ؟ ! قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد ، فقال أمير المؤمنين(ع): قوموا فسلموا على أخيكم فقد أسلم وقد كان كافرا ، قال: وانطلق الرجل غير بعيد ، ثم انصرف إليه فقال له: يا أمير المؤمنين أبالمشية الأولى نقوم ونقعد ونقبض ونبسط ؟ فقال له أمير المؤمنين(ع): وإنك لبعد في المشية , أما إني سائلك عن ثلاث لا يجعل الله لك في شئ منها مخرجا: أخبرني أخلق الله العباد كما شاء أو كما شاؤوا ؟ ! فقال: كما شاء ، قال(ع): فخلق الله العباد لما شاء أو لما شاؤوا ؟ ! فقال: لما شاء ، قال(ع): يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاؤوا ؟ قال : يأتونه كما شاء ، قال(ع): قم فليس إليك من المشية شئ ".
قال الامام الصادق(ع): إن الناس في القدر علی ثلاثة أوجه: رجل یزعم أنّ الله عز وجل أجبر الناس علی المعاصي، فهذا قد ظلم الله في حکمه فهو کافر. ورجل یزعم أنّ الأمر مفوض إلیهم, فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو کافر. ورجل یزعم أنّ الله کلف العباد ما یطیقون ولم یکلفهم ما لا یطیقون, وإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ ».
قال أبو حنیفة: حججت في أیام أبي عبد الله(ع) فلما أتیت المدینة دخلت داره فجلست في الدهلیز أنتظر إذنه إذ خرج صبيّ یدرج فقلت: یا غلام أین یضع الغریب الغائط من بلدکم؟ قال: علی رسلک، ثم جلس مستندا إلی الحائط ثم قال: توقّ شطوط الأنهار ومساقط الثمار وأفنیة المساجد وقارعة الطریق وتوار خلف جدار وشل ثوبک ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها وضع حیث شئت. فأعجبني ما سمعت من الصبي فقلت له ما آسمک؟ فقال: أنا موسی بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسین بن علي بن أبي طالب. فقلت له: یا غلام ممن المعصیة؟ فقال(ع): إنّ السیئات لا تخلو من إحدی ثلاث: إما أن تکون من الله ـ ولیس منه ـ فلا ینبغي للرب أن یعذب العبد علی ما لا یرتکب. وإما أن تکون منه ومن العبد ـ ولیس کذلک ـ فلا ینبغي للشریک القوي أن یظلم الشریک الضعیف. وإما أن تکون من العبد ـ وهي منه ـ فإن عفا فبکرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجریرته. قال أبو حنیفة فانصرفت ولم ألق أبا عبد الله(ع) واستغنیت بما سمعت ".
قال أمیر المؤمنین(ع): کل ما آستغفرت الله منه فهو منک، وکل ما حمدت الله علیه فهو منه".
المبحث الخامس: الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين:
أولا: مقـدمـة لا بد منها:
في الحقيقة إن كل إنسان عندما يتوجه إلى نفسه وضعفه وحاجته وعلاقته مع الله تعالى يخطر في ذهنه هذا السؤال: هل هو مستقل في أفعاله وأقواله , أم أنه مجبور ومقهور في جميع ما يفعل حتى تلك التي يحاسبه الله تعالى عليها ؟
وبعبارة أخرى: هل أن للإنسان يد واختيار في تقرير مصيره وأن جميع أفعاله باختياره المطلق أم أنه مجبور على أفعاله ؟
أم أن هناك معنى ثالث وهو أن تقرير المصير بيد العبد ولكن لا مطلقاً ؟ بمعنى أنه بعون الله تعالى وبالمدد المستمد منه يفعل الإنسان ما يفعل ؟!
في الحقيقة الإنسان لا مخير ولا مسير، لا مجبور ولا مخير تمام الإختيار. بل هو في أمر بين أمرين: بين التخيير والجبر, لا مفوض إليه مطلقا ولا هو مجبور. بل يفعل جميع أفعاله باختياره ولكن تحت مشيئة الله وحيطته ليس بخارج عنهما, يأتي بأفعاله بالقوة المستمدة منه تعالى، ولله القدرة والقيومية عليه حيث يمكنه أن يمنعه متى أراد, ومن الممكن أن يخليه وفعله كما هو الغالب ولا يمنعه من فعل ما أختاره , مع أنه سبحانه هو الذي يمده بالقدرة والقوة على إتيان جميع أفعاله صالحها وطالحها .
قال تعالى:{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } آل عمران ١٨
فلا يمكن القول بأن الإنسان مطلق الإختيار ومفوض إليه جميع أعماله وأفعاله , لأنه إخراج للعبد عن قدرة الله وسلطانه وحيطته وقيوميته ، وهذا حد لقدرة الباري وحط من سلطانه وحيطته !
ولا يمكن القول أيظا بأن الله تعالى يجبر الخلق على أفعالهم ثم يعذبهم عليها ، ولو كان يعاقبهم وهم مع ذلك مجبورون على أعمالهم , لما كان فعله هذا من القسط والعدل بل ظلم منه للعباد وهذا مستحيل في حقه تعالى !
{ وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} المؤمنون ٦٢{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} فصلت ٤٦
ثاثيا: الأشاعرة والمعتزلة:
بعد وفاة النبي(ص) ذهب فریق من أهل السنة إلی اختیار عقیدة الجبر(الأشاعرة)، وقالوا بأنّ الإنسان فاعل مجبور مسیّر, وأن القضاء والقدر وأفعال العباد كلها من الله تبارك وتعالى.
وذهب فریق آخر إلی اختیار عقیدة التفویض(المعتزلة), وقالوا بأنّ القضاء والقدر وكل الأفعال هي متروکة إلى العبد , وهو مخير ومفوض إلیه في ذلك ولا يستند فعله إلی الله مطلقا !
کِلا الفریقین تصوروا أنّ الفعل إمّا یجب أن یستند إلی الإنسان، أو أن یستند إلی الله سبحانه وتعالی، أي إمّا أن تکون القدرة البشریة لوحدها هي المؤثرة ، وإما أن تکون القدرة الإلاهیة هي المؤثرة لیس إلا !
وكان كلا الطائفتين تسمي الطائفة الأخرى بالقدرية, لما ورد عن النبي(ص):" القدرية مجوس هذه الأمة , إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم".
فأخذت المجبرة تسمي المفوضة بالقدرية لقولهم أن الله قدر عباده على أعمالهم على وجه الإستقلال, وأخذت المفوضة تسمي المجبرة بالقدرية لأنهم يعتقدون أن لا مدخل للعباد في أفعالهم خيرها وشرها وأن الله أجرى الأفعال على أيديهم .
ثالثا: نضرية الجبـــــر:
جبره علی الأمر وأجبره , أي قهره علیه وأکرهه علی الإتیان به بالقهر والغلبة.
یعني إجبار الله تعالی عباده علی ما یفعلون خیرا کان أو شرا حسنا کان أو قبیحا( نجاحا أو خسرانا) ، فهم مجبورون مسیّرون في أفعالهم وليس لهم إرادة وآختیار الرفض والإمتناع , وکل ما یحدث لهم هو مقدّر علیهم أزلا من قبل الله تبارك وتعالى.
سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا جبال حنين ما سقوني لغنت
ويقول المجبرة: لا مؤثر في الوجود إلا الله , وينكرون العلة والمعلول والسببية كفعل الشمس مثلا وباقي المعلولات في عالم الوجود .
والجبر هي عقيدة الأشاعرة , نسبة إلى أبو الحسن الأشعري رئيس مذهب الأشاعرة وكان من المعتزلة في بدايته ثم إنشق عنهم, وإليه يعود أهل السنة في أصول الدين, وهو حفيد أبو موسى الأشعري.
والجبرية , مثل أبو حنيفة وابن تيمية.. يبطلون الحسن والقبح العقليين, ويقولون بأن الله له أن يدخل أتقى الأنبياء في جهنم ويدخل أعتى الجبابرة في الجنة , وهذا فعل قبيح لا يصدر عن الله سبحانه وتعالى لأنه حكيم , والحكيم لا يمكن أن يصدر عنه القبيح, والقبيح لا يصدر إلا عن الجهل أو الحاجة , تبارك الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ومن الذين رفضوا رأي الجبر نذكر مثلا: معبد الجهني وغيلان الدمشقي(قتلا على يدي الحجاج وهشام بن عبد الملك) , أبو المعالي الجويني الشافعي(٤٧٨هـ), الشيخ الشعراني(٩٧٣هـ) , محمد عبدة تلميذ جمال الدين الأفغاني(١٣٢٣هـ) , ابن رشد الأندلسي , فخر الدين الرازي , الصاحب بن عباد الوزير(٣٨٥هـ).. الخ
نضرب مثالا لنضرية الجبر:
وهو( ما یصدر عن العبد بغیر إختیاره وإرادته): وذلک کما لو آفترضنا شخصا مرتعش الید وقد فقدت قدرته وآختیاره في تحریک یده , ففي مثله إذا ربط المولی بیده المرتعشة سیفا قاطعا وفرضنا أنّ بجنبه شخصا راقدا وهو یعلم أنّ السیف المشدود في یده سیقع علیه فیهلکه ، فمن الطبیعيّ أنّ مثل هذا الفعل خارج عن إختیارالعبد ولا یستند الیه، ولا یراه العقلاء مسؤولا عن هذا الحادث ولا یتوجه الیه الذمّ واللوم أصلا، بل المسؤول عنه إنما هو من ربط یده بالسیف ویتوجه الیه هو اللوم والذمّ وفي هذا المثال هو الله تبارك وتعالى. وهذا واقع نظریة الجبر وحقیقتها.
رابعا: نضرية التفـــویض:
فوض إلیه الأمر تفویضا, أي جعل له حرية التصرف فیه. فهو مخير في كل أموره .
يعني أنّ الله تعالی فوض أفعال العباد إلیهم یفعلون ما یشاؤون علی وجه الإستقلال دون أن یکون لله سبحانه وتعالى سلطان علی أفعالهم !
بمعني أنّ الحق قد عزل نفسه ـ والعیاذ بالله ـ عن التصرف في أمور الخلق وفوض ذلک إلی الإنسان سوی کان کاملا صاحب إختیار وإرادة أو ناقصا مسلوب الشعور والإرادة ، فهو یتصرف بصورة تامة ومستقلة !
وتنسب عقيدة المعتزلة هذه , إلى مؤسسها واصل بن عطاء(١٣١هـ) وذلك لإعتزاله حلقة درس الحسن البصري !
وحين تسألهم: إن كانت الأفعال كلها من العبد, فلم يطلب من الله الإستعانة بقوله(إياك نعبد وإياك نستعين)؟ يستعينه على ماذا ؟ أو بحول الله وقوته أقوم وأقعد , فإنهم لا يحيرون جوابا !
نضرب مثالا لنضرية التفويض:
وهو(ما یصدر عن العبد بآختیاره وآستقلاله من دون حاجة إلی غیره أصلا): وذلک کما إذا آفترضنا أنّ المولی أعطی سیفا قاطعا بید شخص حر وقد ملک تنفیذ إرادته وتحریک یده , ففي مثل ذلک إذا صدر منه قتل في الخارج یستند الیه دون المعطي. وإن کان المعطي یعلم أنّ إعطاؤه السیف ینتهي به الی القتل کما أنه یستطیع أن یأخذ منه السیف متی شاء ولکن کل ذلک لا یصحح إستناد الفعل الیه. وهذا واقع نظریة التفویض وحقیقتها.
خامسا: نضرية الأمر بین الأمرین:
خیـّره أي: فوّض إلیه الإختیار بین أمرین أو شیئین أو أکثر.
وهو أنّ الله سبحانه وتعالی کلف عباده بواسطة الأنبیاء والرسل ببعض الأفعال ونهاهم عن بعض آخر, أمرهم بطاعته في ما أمر به ونهی عنه بعد أن منحهم القوة والإرادة علی الفعل والترک, وجعل لهم الإختیار في ما یفعلون دون أن یجبر أحدا علی الفعل.
فإختیار الإنسان حقیقة مسلمة ووجدان کل شخص یشهد بأنه قادر في قراراته علی أن یختار أحد الطرفین: الفعل أو الترک. ولکن ذلک لا یعني بأن الإنسان متروک لحاله وأنّ إرادته مطلقة العنان، وأنه لیس لله أيّ تأثیر في فعله، لأن مثل هذه العقیدة (كما يقول المفوضة) تنافي أصل احتیاج الإنسان الدائم إلی الله سبحانه وتعالی.
یعني أنّ فعل الإنسان في حال کونه مستندا إلی العبد، مستندا إلی الله أیظا, لأنّ الفعل صادر من الفاعل وفي نفس الوقت تکون قدرة الفاعل علی الفعل هي من الله تبارک وتعالی.
" وما رمیت اذ رمیت ولکن الله رمی" أنت رمیت ولکن لم ترم بقدرتک المستقلة، بل حصل بواسطة قدرة الله فأنت رمیت والله رمی.
( فأردت أن أعیبها): نسب العمل الناقص إلی نفسه(السیئة).
( فأراد ربک أن یبلغا): نسب العمل الکامل إلی الله(الحسنة).
( فأردنا أن یبدلهما ربهما) العمل للطرفین(الحسنة والسیئة من الله ومن العبد) وهو (الأمر بین الأمرین) !
مثال السيارة: تركيب الآلات والأدوات والأزرار والأضواء.. حتى تصبح جاهزة كاملة, ولكن ينقصها البنزين والسائق وهي بدونه لا تتحرك !
أدخل الله سبحانه وتعالی الإنسان في هذا العالم, في مطعم من نوع « سلف سرویس» کما قال سبحانه وتعالی:" کلا نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربک وما کان عطاء ربک محظورا " فلولا إمداد الله عبیده بکل ما یملکون من طاقات فکریة وجسدیة وما سخر لهم في هذا العالم لما استطاع المؤمن أن یعمل صالحا, ولا الضال الکافر أن یعمل عملا ضارا فاسدا, ولو سلبهم لحظة واحدة أيّ جزء ممّا منحهم من الرؤیة والعقل والصحة وو.. لما آستطاعوا أن یفعلوا شیئا.
إذن: فالإنسان یفعل ما یفعل بما منحه الله تبارک وتعالی بمحض اختیاره.. فالمواد الأولية كلها منه تعالى!!
(شاء الله أن يراني قتيلا... وشاء الله أن يراهن سبايا..), إرادة تشريعية لا تكوينية. يعني أحب الله أن يرى الحسين قتيلا.. فلبى الحسين هذا الحب !
نضرب مثالا لنضرية الأمر بین الأمرین:
وهو( ما یصدر عن العبد بآختیاره وإعمال قدرته علی رغم أنه فقیر بذاته وبحاجة في کل آن الی غیره بحیث لو آنقطع منه مدد الغیر في آن إنقطع الفعل فیه حتما): وذلک کما إذا آفترضنا أنّ للمولی عبدا مشلولا غیر قادر علی الحرکة فربط المولی بجسمه تیارا کهربائیا لیبعث في عضلاته قوة ونشاطا نحو العمل ولیصبح بذلک قادرا علی تحریکها، وأخذ المولی رأس التیار الکهربائي بیده وهو الساعي لإیصال القوة في کل آن الی جسم عبده , بحیث لو رفع الید في آن عن السلک الکهربائي انقطعت القوة عن جسمه فیه وأصبح عاجزا. وعلی هذا فلو أوصل المولی تلک القوة الی جسمه وذهب بآختیاره وقتل شخصا والمولی یعلم بما فعله ففي مثل ذلک یستند الفعل الی کل منهما: أما الی العبد, فحیث أنه صار متمکنا من إیجاد الفعل وعدمه بعد أن أوصل المولی القوة الیه وأوجد القدرة في عضلاته وهو قد فعل بآختیاره وإعمال قدرته. وأما الی المولی فحیث أنه کان معطي القوة والقدرة له حتی حال الفعل والإشتغال بالقتل، مع أنه متمکن من قطع القوة عنه في کل آن شاء وأراد. وهذا هو واقع نظریة الأمر بین الأمرین وحقیقتها(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
سادسا: بعض النصوص في هذا المضمار:
قال الله تعالى:{ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنماَ يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ }.{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.{ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}.{ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.{ إياك نعبد وإياك نستعين}.{ قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين}.{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.{ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}.
عن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع) قالا: " إنّ الله أرحم بخلقه من أن یجبر خلقه علی الذنوب ثم یعذبهم علیها. والله أعز من أن یرید أمرا فلا یکون. قالوا: فسُـــئلا: هل بین الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم, أوسع مما بین السماء والأرض".
یقول الإمام الصادق(ع): لا جبر(يعني الإطلاق وإلا الجبر موجود) ولا تفویض(أيظا مطلق التفويض) ولکن أمر بین الأمرین ".
قال رسول الله(ص):" من زعم أن الله تبارك وتعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه, ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله الله النار".
كان أمير المؤمنين(ع) جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ، ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلی أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال(ع): أجل یا شیخ، فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر". فقال الشیخ: عند الله أحتسب عنائي یا أمیر المؤمنین(أي إن کان خروجنا وجهادنا بقضاءه تعالی وقدره لم نستحق أجرا). فقال: مه يا شيخ ! فوالله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون, ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين . فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شئ من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟ فقال له: وتظن أنه كان قضاء حتما وقدرا لازما ؟ إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله, وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن , ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها . إن الله تبارك وتعالى كلف تخييرا ونهى تحذيرا وأعطى على القليل كثيرا, ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها , ولم يملك مفوضا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار". فأنشأ الشيخ يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعتــــــه.......... يوم النجاة من الرحمان غفرانا
أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسـا...........جازاك ربك بالإحسان إحسانــا
قال النبي(ص):" القدرية مجوس هذه الأمة, إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم".
قال رسول الله صلى الله عليه وآله:" سبق العلم وجف القلم ومضى القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب ، وتصديق الرسل ، وبالسعادة من الله لمن آمن واتقى ، وبالشقاء لمن كذب وكفر ، وبالولاية من الله للمؤمنين ، وبالبراءة منه للمشركين . ثم قال رسول الله(ص): إن الله يقول: يابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبقوتي وعصمتي وعافيتي أديت إلي فرائضي ، وأنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بذنبك مني ، الخير مني إليك بما أوليتك به ، والشر مني إليك بما جنيت جزاءا ، وبكثير من تسلطي لك انطويت عن طاعتي ، وبسوء ظنك بي قنطت من رحمتي ، فلي الحمد والحجة عليك بالبيان ، ولي السبيل عليك بالعصيان ، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان ، لم أدع تحذيرك بي ، ولم آخذك عند عزتك ، وهو قوله:{ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } لم أكلفك فوق طاقتك ، ولم أحملك من الأمانة إلا ما أقررت بها على نفسك ، ورضيت لنفسي منك ما رضيت به لنفسك مني ".
عن إسماعيل بن جابر قال:" كان في مسجد المدينة رجل يتكلم في القدر والناس مجتمعون ، قال: فقلت: يا هذا ؟ أسألك ؟ قال: سل ، قلت: يكون في ملك الله تبارك وتعالى مالا يريد ؟ قال: فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إلي فقال: يا هذا لئن قلت: إنه يكون في ملكه مالا يريد إنه لمقهور، ولئن قلت: لا يكون في ملكه إلا ما يريد أقررت لك بالمعاصي ، قال: فقلت لأبي عبد الله(ع) سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا ، فقال لنفسه نظر، أما لو قال غير ما قال لهلك ".
قال أبو الحسن الرضا(ع) ليونس بن عبد الرحمن:" يا يونس لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس . فإن أهل الجنة قالوا:" الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ", وقال أهل النار:" ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين", وقال إبليس:" رب بما أغويتني" . فقلت يا سيدي: والله ما أقول بقولهم ولكني أقول: لا يكون إلا ما شاء الله وقضى وقدر، فقال: ليس هكذا يا يونس ولكن لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، أتدري ما المشية يا يونس؟ قلت: لا ، قال: هو الذكر الأول, وتدري ما الإرادة ؟ قلت: لا ؟ قال: العزيمة على ما شاء , وتدري ما التقدير؟ قلت: لا، قال: هو وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء و الفناء, وتدري ما القضاء؟ قلت: لا ، قال: هو إقامة العين، ولا يكون إلا ما شاء الله في الذكر الأول ".
المبحث السادس: عقيدتنا في البداء:
قال الله تعالی:" يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " الرعد ٣٩
وقال سبحانه:" فمحونا آیة اللیل وجعلنا آیة النهار مبصرة " الإسراء ١٢
وقال أيظا:" ویمحو الله الباطل ویحق الحق بکلماته " الشوری ٢٤
عن الإمامين الباقر والصادق(ع) قالا:" ما عبد الله عزوجل بشئ مثل البداء ".
أولا : معنى البداء:
البداء معناه الظهور, بدا لي الأمر كذا يعني ظهر لي أن الأمر كذا بعد ما كان خفيا عني, جد لي فيه رأي آخر, فهو ظهور ما كان خافيا من الفعل لظهور ما كان خافيا من العلم بالمصلحة , وهو عند الإنسان ناتج عن جهله وقلة علمه بالأمر ثم يبدو له أن المصلحة خلاف ذلك.
فالبداء يظهر للمخلوق وليس للخالق (يظهر للإنسان أو للأنبياء أو للملائكة العمالة).
ولا يقع البداء لله سبحانه وتعالى, بل هو موجود في علمه الأزلي الذي هو محيط بكل شيء !
ويمكن تسمية ما عند الله تعالى من بداء على هذا الشكل: أنه سبحانه ينهى مثلا عن شيء ثم يأمر بذلك الشيء الذي نهى عنه , أو بالعكس يأمر بشيء ثم ينهى عنه , كما هو الحال في نسخ الشرائع السماوية أو كتحويل القبلة أو كنسخ آية النجوى.. وكل ذلك صادر عن حكمة إلاهية لعلمه تعالى بحقائق الأمور ومصالح الأشياء.
ثانيا: اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات:
أولا: اللوح المحفوظ: هو الذي فيه علم الله الأزلي من تمام المعلومات القطعية والكليات والجزئيات ونتائج وأسرار وحقائق الأشياء بكل شرائطها وأبعادها وتمامها.
ثانيا: لوح المحو والإثبات: هو الذي تأخذ النفوس العالية والملائكة بسائر أصنافها معلوماتها منه.
فلله سبحانه وتعالی في شأن الإنسان نوعان من التقدیر:
الأول: تقدیر محتوم وقطعيّ: لا یقبل التغییر والتبدیل مطلقا.
الثاني: تقدیر معلق ومشروط: وهو یتغیر ویتبدل مع فقدان بعض الشرائط ویحل محله تقدیر آخر.
قال الله تعالی:" إنّ الله لا یغیر ما بقوم حتی یغیروا ما بأنفسهم " الرعد١١
وقال سبحانه:" ولو أنّ أهل القری آمنوا لفتحنا علیهم برکات من السماء والأرض ولکن کذبوا فأخذناهم بما کانوا یکسبون " الأعراف ٩٦
بيان ذلك بأمثلة:
إنسان عق والدیه وقطع رحمه , مثلا , فإنّ من الطبیعيّ أنّ هذا العمل الغیر الصالح سیکون له تأثیر غیر مرغوب في مصیره , فإذا غیّر من سلوکه في النصف الآخر من حیاته واهتم برعایة والدیه ووصل رحمه , فإنه یکون قد هیّأ الأرضیة لتغییر مصیره وصار مشمولا بقوله تعالی(یمحو الله ما یشاء ویثبت وعنده أم الكتاب). فالباري يظهر شيئا لعبده حين يظهر العبد شيئا لربه, فالعبد كلما ظهر منه شيء , الباري يظهر له شيء على حسب ما أظهر العبد له !
أو كعبد صالح قدر له الباري كذا من العمر ثم ظهر منه شيء ما, زنى مثلا أو قطع رحمه فأنقص له من عمره , أو كان فاسقا قاطعا لرحمه ثم تعفف ووصل رحمه فزاد له في عمره . فكلما ظهر من العبد تغير, يظهر من الباري لملائكته العمالة الفعالة التي تدير الأمور بحسب الأمر الإلاهي شيء آخر من التقدير والتغيير في حياة ذلك العبد , ينقله لها من اللوح المحفوظ إلى لوح المحو والإثبات فعندئذ تعلمه ! وکلا التقديرين موجودين أزلا في علم الله سبحانه وتعالی.
إذن , فالبداء يكون في علم الملائكة عند تلقيها للعلم المفاض عليها من اللوح المحفوظ ولا يقع البداء في علم الله سبحانه وتعالى . فالتقدير الأصلي موجود في اللوح المحفوظ وهو مستند إلى علم الله الأزلي, والملائكة التي عندها علم ما في لوح المحو والإثبات لا تعلمه حتى ينزل إليها من هناك فيقع عندها حينئذ البداء !
" اللهم إن کنت کتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها, وإن کنت کتبتني في أهل الشقاوة والذنب فآمحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة, فإنک تمحو ما تشاء وتثبت وعندک أم الکتاب".
بعض النصوص في هذا المضمار:
قال رسول الله(ص) للإمام علي(ع) وقد سأله عن قوله تعالی« یمحو الله ما یشاء» لأقرنّ عینیک بتفسیرها ولأقرنّ عین أمتي بعدي بتفسیرها: الصدقة علی وجهها، وبرّ الوالدین واصطناع المعروف یحول الشقاء سعادة ویزید في العمر ویقي مصارع السوء ".
قال الإمام الصادق(ع) في قول الله عزوجل:" وقالت الیهود ید الله مغلولة " لم یعنوا أنه هکذا، ولکنهم قالوا قد فرغ من الأمر فلا یزید ولا ینقص, فقال الله جل جلاله تکذیبا لقولهم:" غلت أیدیهم ولعنوا بما قالوا بل یداه مبسوطتان ینفق کیف یشاء", ألم تسمع الله عز وجل یقول:" یمحو الله ما یشاء ویثبت وعنده أم الکتاب ".
قال الإمام الباقر(ع):" العلم علمان: فعلم عند الله مخزون(في اللوح المحفوظ) لم يطلع عليه أحدا من خلقه(أهل البيت هم خزان العلم يعلمونه ولكن لم يطلع عليه الخلق الثاني وفي هذا العلم البداء). وعلم علمه ملائكته ورسله(علم محتوم لا يحدث فيه البداء مثل نبوة نبينا وظهور إمامنا والمعاد والجنة والنار)، فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله. وعلم عنده مخزون يقدم منه(يخرج منه إلى لوح المحو والإثبات) ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء ".
عن أبى عبد الله(ع) قال:" إن لله علمين, علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء , وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبيائه فنحن نعلمه ". وقال أيظا(ع):" ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له ".
عن ابن عباس قال: قال(ص):"من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه". ولما سئل إبن عباس: کیف یزاد في العمر والأجل ؟ قال: قال الله عز وجل:" هو الذي خلقکم من طین ثم قضی أجلا وأجل مسمّی عنده ".. فالأجل الأول أجل العبد من حین ولادته إلی حین موته. والأجل الثاني(یعني المسمّی عنده) من حین وفاته إلی یوم یلقاه في البرزخ لا یعلمه إلا الله. فإذا اتّقی العبد ربه ووصل رحمه، زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما یشاء. وإذا عصی وقطع رحمه، نقصه الله من أجل عمره في الدنیا ما شاء، فیزیده من أجل البرزخ..".
قال النبي(ص):" إنّ الله أری آدم ذریته فرأی رجلا أزهرا ساطعا نوره. قال: یا ربّ من هذا؟ قال: هذا ابنک داود ! قال: یا رب فما عمره؟ قال: ستون سنة ! قال: یا رب زد في عمره ! قال: لا, إلا أن تزیده من عمرک! قال: وما عمري؟ قال: ألف سنة ! قال آدم: فقد وهبت له أربعین سنة من عمري !.. فلمّا حضره الموت وجاءت الملائکة قال: قد بقي من عمري أربعون سنة , قالوا انک وهبتها لداود.."
یقول الامام الصادق(ع):" إذا کان لیلة القدر نزلت الملائکة والروح والکتـَـــبَة إلی السماء الدنیا فیکتبون ما یکون من قضاء الله تعالی في تلک السنة، فإذا أراد الله أن یقدّم شیئا أو یؤخره أو ینقص شیئا أمر الملک أن یمحو ما یشاء ثم أثبت الذي أراد ".
قصة قوم یونس(ع): قال الله تعالی:" فلولا کانت قریة آمنت فنفعها إیمانها إلا قوم یونس لمّا آمنوا کشفنا عنهم عذاب الخزي في الحیاة الدنیا ومتعناهم إلی حین" یونس٩٨ کان قوم یونس یعبدون الأصنام فأرسل الله إلیهم یونس(ع) یدعوهم إلی الإسلام وما هم علیه فأبوا، وتبعه منهم عابد وشیخ من علمائهم. وکان العابد یشیر علی یونس بالدعاء علیهم والعالم ینهاه ویقول له: لا تدع علیهم فإنّ الله یستجیب لک ولا یحب هلاک عباده ، فقبل یونس قول العابد فأخبر الله تعالی أنه یأتیهم العذاب في شهر کذا في یوم کذا فأخبرهم یونس بذلک، فلما قرُبَ الوقت خرج یونس من بینهم مع العابد وبقي العالم فیهم، وقال قومه: لم نجرب ـ یونس ـ علیه الکذب، فانظروا فإن بات فیکم اللیلة فلیس بشيء، وإن لم یبت فاعلموا أنّ العذاب مصبحکم. فلما کان في جوف اللیل خرج یونس من بین أظهرهم، ولما علموا ذلک ورأوا آثار العذاب وأیقنوا بالهلاک ذهبوا إلی العالم فقال لهم: افزعوا إلی الله فإنه یرحمکم ویرد العذاب عنکم فآخرجوا إلی المفازة وفرقوا بین النساء والأولاد وبین سائر الحیوان وأولادها ثم أبکوا وآدعوا. ففعلوا: خرجوا إلی الصعید بأنفسهم ونسائهم وصبیانهم ودوابهم، ولبسوا المسوح، وأظهروا الإیمان والتوبة وأخلصوا النیة. وفرقوا بین کل والدة وولدها من الناس والأنعام. فحنّ بعضها إلی بعض وعلت أصواتها، وأختلطت أصواتها بأصواتهم، وتضرعوا إلی الله عز وجل. وقالوا: آمنا بما جاء به یونس، فرحمهم ربهم واستجاب دعائهم وکشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم، بعد أن بلغ من توبتهم إلی الله، ردوا المظالم بینهم حتی کان الرجل لیأتي الحجر وقد وضع علیه أساس بنیانه فیقتلعه ویرده، وکذلک محا الله العذاب عن قوم یونس بعد أن تابوا، وکذلک یمحو الله ما یشاء ویثبت وعنده أم الکتاب ".
المبحث السابع: عقيدتنا في الرجعة:
مقدمــــــــــة :
قال الله تعالى:{ إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا إثنتین وأحییتنا إثنتین فآعترفنا بذنوبنا فهل الی خروج من سبیل }غافر١١
الرجعة في اللغة: هي العودة الی الحیاة الدنیا بعد الموت. والموت لیس هو النتیجة النهائیة لرحلة الروح والبدن في هذا الکون، بل هو نافذة تطل علی حیاة جدیدة وعوالم مختلفة.
لقد دل القرآن الكريم علی الحشر العام بعد نفخة النشور:{ ویوم ینفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وکلّ آتوه داخرین} النمل ٨٧ ـ الکهف ٤٩
ودل في نفس السورة علی الحشر الخاص قبل یوم القیامة, وهو عودة بعض الأموات الی الحیاة.
قال تعالی:{ ویوم نحشر من کل أمة فوجا ممن یکذب بآیاتنا فهم یوزعون} النمل ٨٣
فالحشر الخاص هو من العلامات الواقعة بین یدي الساعة، کظهور الدجال وخروج السفیاني ونزول عیسی من السماء وطلوع الشمس من مغربها..
ان الله تبارک اسمه یعید قوما من الأموات الی الدنیا قبل یوم القیامة في صورهم التي کانوا علیها، فیعزّ فریقا ویذل فریقا آخر, وذلک عند قیام مهدي آل محمد(ص), ولا یرجع إلا من علت درجته في الإیمان أو من بلغ الغایة من الفساد. ثم یصیرون بعد ذلک الی الموت ومن بعده الی النشور وما یستحقونه من الثواب والعقاب.
لا سبب لاستغراب الرجعة , إلا أنها أمر غیر معهود لنا فیما ألفناه في حیاتنا الدنیا، وخیال الإنسان لا یسهل علیه أن یتقبل تصدیق ما لم یألفه. وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الأموات, فتلك{سنة الله في الذین خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبدیلا }.
وقال النبي(ص):" لترکبن سنن من کان قبلکم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتی لو انّ أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتم " ,
نذكر جملة منها:
إحياء عيسى(ع) للأموات, قال الله تعالى:{ وإذ تخرج الموتی بإذني} المائدة ١١٠ , وقال:{ وأبریء الأکمه والأبرص وأحیي الموتی بإذن الله}آل عمران ٤٩
إحیاء قوم من بني إسرائیل, قال تعالى:{ ألم تر الی الذین خرجوا من ریارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحیاهم انّ الله لذو فضل علی الناس ولکن أکثر الناس لا یشکرون} البقرة 243 الروایات الواردة في تفسیر هذه الآیة تدل علی أن هؤلاء ماتوا مدة طویلة ثم أحیاهم الله فرجعوا الی الدنیا وعاشوا مدة طویلة. وملخصها أنهم کانوا سبعین ألف بیت من بني اسرلئیل وکان یقع فیهم الطاعون کل سنة فأجمعوا علی أن یخرجوا جمیعا من دیارهم اذا کان وقت الطاعون فخرجوا ونزلوا علی شط البحر فأماتهم الله جمیعا فبقوا بذلک ما شاء الله, ثم أحیاهم بدعاء نبيّ من بني اسرائیل اسمه أرمیا أو حزقیل.
إحیاء عزیر(ع), قال تعالى:{أو کالذي مرّ علی قریة وهي خاویة علی عروشها قال أنّی یحیي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه..}. سأل ابن الکوّاء أمیر المؤمنین(ع): ما ولد أکبر من أبیه من أهل الدنیا ؟ قال(ع):" نعم، أولائک ولد عزیر، حیث مرّ علی قریة خربة وقد جاء من ضیعة له تحته حمار ومعه شنـّة فیها تین، وکوز فیه عصیر. فمرّ علی قریة خربة فقال:{ أنّی یحیي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام } فتوالد ولده وتناسلوا. ثم بعث الله الیه فأحیاه في المولد الذي أماته فیه. فأولائک ولده أکبر من أبیهم ".
إحیاء سبعین رجلا من قوم موسی(ع), قال تعالى:{ وإذ قلتم یا موسی لن نؤمن لک حتی نری الله جهرة فأخذتکم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناکم من بعد موتکم لعلکم تشکرون}البقرة ٥٦ وقال:{ واختار موسی قومه سبعین رجلا لمیقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلکتهم من قبل وإیاي أتهلکنا بما فعل السفهاء منا } الأعراف ١٥٥ . هؤلاء سبعین ممن اختارهم موسی لمیقات ربه, أماتهم الله ثم أحیاهم بدعاء موسی(ع) له سبحانه وتعالی, فرجعوا الی الحیاة الدنیا فأکلوا وشربوا ونکحوا النساء وولد لهم الأولاد ثم ماتوا بآجالهم.
إحیاء أصحاب الکهف, قال تعالى:{ ولبثوا في کهفهم ثلاث مائة سنین وازدادوا تسعا }, ثم بعثهم الله فرجعوا الی الدنیا لیتسائلوا بینهم وقصتهم معروفة .عن الثعلبي قال: وأخذوا مضاجعهم ، فصاروا الی رقدتهم الی آخر الزمان عند خروج الإمام المهدي(ع). یقال ان المهدی یسلم علیهم فیحییهم الله.
إحیاء قتیل بني اسرائیل, قال الله تعالى:{ فقلنا اضربوه ببعضها کذلک یحیي الله الموتی ویریکم آیاته لعلکم تعقلون} البقرة ٧٣
إحیاء الطیور لإبراهیم(ع), قال تعالى:{ واذ قال ابراهیم ربّ أرني کیف تحیي الموتی قال أولم تؤمن قال بلی ولکن لیطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطیر فصرهن الیک ثم اجعل علی کل جبل منهن جزءا ثم ادعهن یأتینک سعیا واعلم أن الله عزیز حکیم} البقرة ٢٦٠
إحیاء ذي القرنین: قال أمیر المؤمنین(ع):" انه کان عبدا صالحا أحب الله فأحبه الله وناصح الله فناصحه، قد أمر قومه بتقوی الله. فضربوه علی قرنه فمات فأحیاه الله. فدعا قومه الی الله، فضربوه علی قرنه الآخر فمات فسمّي ذا القرنین" قال(ع): وفیکم مثله " یعني نفسه(ع).
إحیاء أهل أیوب(ع), قال تعالى:{ وآتیناه أهله ومثلهم معهم } الأنبیاء ٨٤ . ردّ الله سبحانه علیه أهله ومواشیه وأعطاه مثلها معها.
خروج دابة الأرض, قال تعالی:{ واذا وقع القول علیهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تکلمهم أن الناس کانوا بآیاتنا لا یوقنون ویوم نحشر من کل أمة فوجا ممن یکذب بآیاتنا فهم یوزعون حتی اذا جاؤوا قال أکذبتم بآیاتي ولم تحیطوا بها علما أمّاذا کنتم تعملون..} النمل ٨٣ . إذن: من علامات تقع بین یدي الساعة: إخراج دابّة الأرض، الحشر الخاص، نفخة النشور ثم القیامة . ودابة الأرض, هو أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب(ع).
إستخلاف المؤمنين الصالحين, قال الله تعالی:{ وعد الله الذین آمنوا منکم وعملوا الصالحات لیستخلفنهم في الأرض کما استخلف الذین من قبلهم ولیمکنن لهم دینهم الذي ارتضی لهم ولیبدلنهم من بعد خوفهم أمنا یعبدونني لا یشرکون بي شیئا } النور٥٥ . تضمنت هذه الآیة بشارة لأهل البیت(ع) بالإستخلاف والتمکین في البلاد, وارتفاع الخوف عنهم عند قیام المهدي(ع) منهم, لأن التمکین في الارض علی الاطلاق لم یتفق في ما مضی وهو منتظر والله لا یخلف المیعاد.
قال الله تعالی:{ کیف تکفرون بالله وکنتم أمواتا فأحیاکم ثم یمیتکم ثم یحییکم ثم الیه ترجعون} البقرة 28 . وهذه الآیة دلالة واضحة علی الرجعة.
أیظا قال تعالی:{ وحرام علی قریة أهلکناها أنهم لا یرجعون} الأنبیاء ٩٥ . قال الصادق(ع):" کل قریة أهلک الله أهلها بالعذاب لا یرجعون في الرجعة, وأما في القیامة فیرجعون. ومن محض الایمان محضا وغیرهم ممن لم یهلکوا بالعذاب, ومحضوا الکفر محضا یرجعون ".
ونحن في زیارتنا للأئمة نقول مثلا في زیارة صاحب العصر(عج):" فاجعلني یا رب فیمن یکرّ في رجعته، ویملک في دولته، ویتمکن في أیامه ".
من هم الراجعون: ؟
مجموع الروایات تنص علی رجعة رسول الله(ص) وأمیر المؤمنین والامام الحسین وکذلک باقي الائمة(ع) . وتنص کذلک علی رجعة عدد من أنصار الامام المهدي(ع) ووزراءه، وبعض أصحاب الائمة وشیعتهم، ورجعة الشهداء والمؤمنین . ومن جانب آخر تنص علی رجعة الظالمین وأعداء الله ورسوله وأهل البیت(ع) وخصوم الأنبیاء والمؤمنین ومحاربي الحق والمنافقین والظالمین.
وأما العامة اخواننا من أهل السنة , فلا یقولون بالرجعة رغم أنّ کتبهم محشوّة بخرافات کثیرة عن عودة بعض الأموات الی الحیاة حتی من حمار أحدهم..
یقول الصادق(ع):
لکل أناس دولة یرقبونـــــــــها.......... ودولتنا في آخر الدهر تظــــهر
المبحث الثامن: عقيدتنا في الملائكــة:
أولا: الملائكة في القرآن:
قال الله تعالى:{ جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ قدير}.
{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله }
{ ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون}
{ عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }
{ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض }
{ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله }.
{ والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا }.
{ والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا}
{ والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا}
{ ولا الملائكة المقربون}.{ فالمقسمات أمرا}
{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق}
ثانيا: الإعتقاد بوجود الملائكة:
الإعتقاد بوجود الملائكة وبفضلهم وبقربهم من الله سبحانه وتعالى, هو من الإعتقادات الواجبة والضرورية في ديننا . وأنه ما من خلق خلقه الله أكثر من الملائكة , وأنهم أكثر من كل صنوف المخلوقات التي خلقها الباري سبحانه وتعالى , ولهم مراتب ومنازل ومقامات كثيرة وذلك حسب جهة القرب والبعد من ساحة القدس الإلاهي .
هناك الملائكة المقربون وهناك الملائكة الغير مقربين, وتحت كل عنوان مراتب ومنازل ودرجات كثيرة جدا. وأشرف هذه المراتب مرتبة الكرًٌَُوبيين(جمع كروبي) وهم سادة الملائكة والمقربون إلى ساحة القدس الإلاهي . والملائكة المهيمين هم الهائمون في جمال الله وجلاله ولا شعور لهم بوجود العلم ولا حتى بوجود آدم . والملائكة العالين وهم خواص الملائكة . أيظا مرتبة الأركان الأربعة: إسرافيل وجبرائيل وميكائيل وعزرائيل .
ثم سكان السماء السابعة هم أعلى درجة من سكان السماء السادسة , وسكان السماء السادسة أعظم درجة من سكان السماء الخامسة وهكذا.. والكروبيون لا يقطنون حتى في السماء السابعة فهم أشرف من سكان السماء السابعة . وهناك ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة البر وملائكة البحر, والملائكة الموكلة بالسحاب وبالمطر وبالأرزاق وبالريح وبالجبال.. الخ .
والملائكة كما في الروايات معصومون, غير مجبورين على الطاعة , ويتنافسون في ما بينهم لنيل أعلى مراتب القرب من الله سبحانه وتعالى, وهو دلالة على أنهم غير مجبورين بل باختيارهم.
مثالا حول العصمة:
إنسان تقدم له , مثلا, البول في إناء , فهو إذا أراد أن يشرب, فإنه يشرب البول بآختياره هو ولا أحد يقهره على ذلك , ولكن نفسه تعاف ذلك وتأنف من شرب البول فلا يشرب, أو كأكل الخنفساء , لا يأكل, فهو باختياره هو وليس مقهورا على فعله !
والملائكة لا يتزاوجون ولا يتوالدون وليس فيهم إناث ولا ذكور وأنهم ينامون. وكما أن الشياطين يدعون إلى الشرور والمعاصي، فالملائكة أيظا يدعون الناس إلى الخيرات والطاعات .
الملائكة هم أجسام إلا أنهم ليسوا من سنخية أجسامنا المادية الطبيعية , بل لهم أجسام لطيفة نورية أو أجسام هوائية , أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع وأكثر، شأنها فقط الطاعة , لهم القابلية على التشكل بأشكال مختلفة والتصور بصور مختلفة وعلى الظهور بظهورات وبهيئات مختلفة على حسب الحكم والمصالح ، ولهم حركات صعودا و هبوطا ، كاملة في العلم والقدرة على الافعال الشاقة.
وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنسان, وكان جبرئيل يأتي النبي(ص) في صورة دحية الكلبي وكذلك نبأ الخصم الذين تصوروا المحراب , وإتيان الملائكة إبراهيم ولوطا في صورة الضيفان من الآدميين .
هناك من رأى الملائكة من المؤمنين وحتى من الكفار, والمحتضر جائز أن يراهم ببصره بأن يزيد الله تعالى في شعاعه ما يدرك به أجسامهم الشفافة الرقيقة .
ثالثا: بعض النصوص في هذا المضمار:
قال النبي(ص) في حديث الإسراء:".. وصعد جبرئيل وصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال له: اسماعيل وهو صاحب الخطفة التى قال الله عزوجل:( الا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب) وتحته سبعون الف ملك تحت كل ملك سبعون الف ملك فقال: يا جبرئيل من هذا الذى معك ؟ فقال محمد رسول الله قال: وقد بعث ؟ قال: نعم ففتح الباب فسلمت عليه وسلم على واستغفرت له واستغفر لى وقال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح ، وتلقتنى الملائكه حتى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك الا ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكه لم ار اعظم خلقا منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لى مثل ما قالوا من الدعاء الا انه لم يضحك ولم ار فيه من الاستبشار ما رايت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فانى قد فزعت منه؟ فقال: يجوز ان يفزع منه فكلنا نفزع منه ان هذا مالك خازن النار لم يضحك قط ، ولم يزل منذ ان ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على اعداء الله واهل معصيته فينتقم الله به منهم ولو ضحك إلى احد قبلك أو كان ضاحكا إلى احد بعدك لضحك اليك فسلمت عليه فرد السلام على وبشرني بالجنه . فقلت لجبرئيل وجبرئيل بالمكان الذى وصفه الله ( مطاع ثم امين ): الا تأمره ان يرينى النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك ار محمدا النار فكشف عنها غطاءها وفتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السماء وفارت وارتفعت حتى ظننت ليتناولنى مما رايت فقلت: يا جبرئيل ! قل له فليرد عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الذى خرجت منه... إلى أن قال: ثم مررت بملك من الملائكه جالس على مجلس وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه وإذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا ، مقبلا عليه كهيئه الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ قال هذا ملك الموت دائب في قبض الارواح فقلت: يا جبرئيل ادننى منه حتى اكلمه فادنانى منه فسلمت عليه وقال له جبرئيل: هذا محمد نبى الرحمه الذى ارسله الله إلى العباد فرحب بى وحياني بالسلام وقال: ابشر يا محمد فانى ارى الخير كله في امتك فقلت: الحمد لله المنان ذى النعم على عباده ذلك من فضل ربى ورحمته على فقال جبرئيل: هو اشد الملائكه عملا فقلت : اكل من مات أو هو ميت فيما بعد هذا تقبض روحه ؟ فقال نعم . قلت: وتراهم حيث كانوا وتشهدهم بنفسك ؟ فقال: نعم . فقال ملك الموت: ما الدنيا كلها عندي فيما سخره الله لى ومكننى عليها الا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء ، وما من دار الا وانا اتصفحه كل يوم خمس مرات ، واقول إذا بكى اهل الميت على ميتهم: لا تبكوا عليه فان لى فيكم عودة وعودة حتى لا يبقى منكم احد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفى بالموت طامه يا جبرئيل فقال جبرئيل: ان ما بعد الموت اطم واطم من الموت... إلى أن قال: ثم رايت ملكا من الملائكة جعل الله امره عجيبا نصف جسده النار والنصف الاخر ثلج فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج تطفئ النار وهو ينادى بصوت رفيع ويقول: سبحان الذى كف حر هذه النار فلا تذيب الثلج وكف برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار اللهم يا مؤلف بين الثلج والنار الف بين قلوب عبادك المؤمنين فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال : هذا ملك وكله الله باكناف السماء واطراف الارضين وهو انصح ملائكة الله لاهل الارض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق . ورايت ملكين يناديان في السماء احدهما يقول: اللهم اعط كل منفق خلفا والاخر يقول: اللهم اعط كل ممسك تلفا... إلى أن قال: مررنا بملائكة من ملائكه الله عزوجل خلقهم الله كيف شاء ووضع وجوههم كيف شاء ، ليس شئ من اطباق اجسادهم الا وهو يسبح الله ويحمده من كل ناحية باصوات مختلفة اصواتهم مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله فسالت جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا ان الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلمهم كلمة قط ولا رفعوا رؤسهم إلى ما فوقها ولا خفضوها الى ما تحتها خوفا من الله وخشوعا فسلمت عليهم فردوا على ايماء برؤوسهم لا ينظرون إلى من الخشوع فقال لهم جبرئيل: هذا محمد نبى الرحمة ارسله الله إلى العباد رسولا ونبيا وهو خاتم النبيين وسيدهم افلا تكلمونه ؟ قال: فلما سمعوا ذلك من جبرئيل اقبلوا على بالسلام واكرموني وبشرونى بالخير لى ولامتى... إلى أن قال: ثم رايت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون الف ملك تحت كل ملك سبعون الف ملك فوقع في نفس رسول الله(ص) انه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم إلى يوم القيامة... إلى أن قال: ورايت من العجائب التى خلق الله وسخر على ما اراده ديكا رجلاه في تخوم الارضين السابعة وراسه عند العرش وهو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله كما اراد رجلاه في تخوم الارضين السابعة ثم اقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة وانتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش وهو يقول: سبحان ربى حيثما كنت لا تدرى اين ربك من عظم شانه ، و له جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدوس ، سبحان الله الكبير المتعال لا اله الا الله الحى القيوم , وإذا قال ذلك سبحت ديوك الارض كلها وخفقت باجنحتها واخذت بالصراخ فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الارض كلها ، ولذلك الديك زغب اخضر وريش ابيض كاشد بياض ما رايته قط ، وله زغب اخضر ايضا تحت ريشه الابيض كاشد خضره ما رايتها قط ..".
دعاء الإمام السجاد(ع) في الصلاة على الملائكة:" اللهم وحملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك ولا يسئمون من تقديسك ولا يستحسرون من عبادتك ولا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك ولا يغفلون عن الوله إليك . وإسرافيل صاحب الصور(أوسع من السماوات والأرض) الشاخص الذي ينتظر منك الاذن وحلول الامر فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور. وميكائيل(ملك الأرزاق بأنواعها) ذو الجاه عندك والمكان الرفيع من طاعتك . وجبريل الامين على وحيك المطاع في أهل سمواتك المكين لديك المقرب عندك . والروح الذي هو على ملائكة الحجب والروح الذي هو من أمرك. اللهم فصل عليهم وعلى الملائكة الذين من دونهم من سكان سمواتك وأهل الامانة على رسالاتك والذين لا تدخلهم سئمة من دؤب ولا إعياء من لغوب ولا فتور ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات ، الخشع الابصار فلا يرومون النظر إليك النواكس الاذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك المستهترون بذكر الائك(النعم) والمتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك. والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر على أهل معصيتك سبحانك ما عبدناك حق عبادتك . فصل عليهم وعلى الروحانيين من ملائكتك وأهل الزلفة عندك . وحمال الغيب إلى رسلك ، والمؤتمنين على وحيك ، وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك وأغنيتهم عن الطعام والشراب بتقديسك وأسكنتهم بطون أطباق سمواتك. والذين على أرجائها إذا نزل الامر بتمام وعدك. وخزان المطر وزواجر السحاب. والذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود وإذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق. ومشيعي الثلج والبرد. والهابطين مع قطر المطر إذا نزل. والقوام على خزائن الرياح . والموكلين بالجبال فلا تزول. والذين عرفتهم مثاقيل المياه وكيل ما تحويه لواعج الامطار وعوالجها. ورسلك من الملائكة إلى أهل الارض بمكروه ما ينزل من البلاء ومحبوب الرخاء. والسفرة الكرام البررة . والحفظة الكرام الكاتبين. وملك الموت وأعوانه (عزرائيل لا ينزل إلا لقبض روح الخلص من الناس أو أشر الخلق, وأما أهل البيت فالله يتولى قبض أرواحهم). ومنكر ونكير. ورومان فتان القبور. والطائفين بالبيت المعمور. ومالك. والخزنة ورضوان. وسدنة الجنان. والذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. والذين يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. والزبانية الذين إذا قيل لهم: خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ابتدروه سراعا ولم ينظروه . ومن أوهمنا ذكره ولم نعلم مكانه منك وبأي امر وكلته . وسكان الهواء والارض والماء ومن منهم على الخلق . فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق وشهيد ، وصل عليهم صلاة تزيدهم كرامة على كرامتهم وطهارة على طهارتهم . اللهم وإذا صليت على ملائكتك ورسلك وبلغتهم صلوتنا عليهم ، فصل علينا بما فتحت لنا من حسن القول فيهم ، إنك جواد كريم ".
عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنه سئل:" هل الملائكة أكثر أم بنو آدم ؟ فقال : والذي نفسي بيده لملائكة الله في السماوات أكثر من عدد التراب في الارض وما في السماء موضع قدم إلا وفيها ملك يسبحه ويقدسه ، ولا في الارض شجر ولا مدر إلا وفيها ملك موكل بها يأتي الله كل يوم بعملها والله أعلم بها ، وما منهم أحد إلا ويتقرب كل يوم إلى الله بولايتنا أهل البيت ، ويستغفر لمحبينا ، ويلعن أعداءنا ، ويسأل الله أن يرسل عليهم العذاب إرسالا ".
قال أمير المؤمنين(ع) في خلقة الملائكة:" وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك ، فليس فيهم فترة ، ولا عندهم غفلة ، ولا فيهم معصية هم أعلم خلقك بك ، وأخوف خلقك منك ، وأقرب خلقك إليك ، وأعملهم بطاعتك ولا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الابدان ، لم يسكنوا الاصلاب ولم تضمهم الارحام ، ولم تخلقهم من ماء مهين ، أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك وأكرمتهم بجوارك وائتمنتهم على وحيك ، وجنبتهم الآفات ، ووقيتهم البليات وطهرتهم من الذنوب، ولولا تقويتك لم يقووا ، ولولا تثبيتك لم يثبتوا ، ولولا رحمتك لم يطيعوا ، ولولا أنت لم يكونوا ، أما إنهم على مكانتهم منك وطواعيتهم إياك ومنزلتهم عندك وقلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم ، ولازروا على أنفسهم ، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك ، سبحانك خالقا ومعبودا , ما أحسن بلاءك عند خلقك " !
قال رسول الله( صلى الله عليه وآله):" إن جبرئيل أتاني فقال: إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ، ولا تمثال جسد ، ولا إناء يبال فيه ".
سئل أمير المؤمنين(ع) عن قدرة الله جلت عظمته ، فقام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: إن لله تبارك وتعالى ملائكة لو أن ملكا منهم هبط إلى الارض ما وسعته لعظم خلقه وكثرة أجنحته ، ومنهم من لو كلفت الجن والانس أن يصفوه ما وصفوه لبعد ما بين مفاصله وحسن تركيب صورته ، وكيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه وشحمة اذنه. ومنهم من يسد الأفق بجناح من أجنحته دون عظم يديه. ومنهم من في السماوات إلى حجزته ، و منهم من قدمه على غير قرار في جو الهواء الاسفل والارضون إلى ركبتيه ، ومنهم من لو ألقي في نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها ، ومنهم من لو ألقيت السفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين ، فتبارك الله أحسن الخالقين".
قال أبي عبد الله( عليه السلام):" إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الاول جعلهم الله خلف العرش ، لو قسم نور واحد منهم على أهل الارض لكفاهم . ثم قال: إن موسى عليه السلام لما أن سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا ".
قال أمير المؤمنين(ع):" ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر، أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء ، فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه ".
سئل أبي عبد الله( عليه السلام) عن قوله تعالى:" إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا ". فقال: أما والله لربما وسدناهم الوسائد في منازلنا . قيل: الملائكة تظهر لكم ؟ فقال: هم ألطف بصبياننا منا بهم . وضرب بيده إلى مساور في البيت فقال: والله لطال ما اتكأت عليه الملائكة ، وربما التقطنا من زغبها ".
قال أبي عبد الله( عليه السلام):" إذا صعدا ملكا العبد المريض إلى السماء عند كل مساء يقول الرب تبارك وتعالى: ماذا كتبتما لعبدي في مرضه ؟ فيقولان: الشكاية ، فيقول: ما أنصفت عبدي إن حبسته في حبس من حبسي ثم أمنعه الشكاية ، اكتبا لعبدي مثل ما كنتما تكتبان له من الخير في صحته ، ولا تكتبا عليه سيئة حتى أطلقه من حبسي فإنه في حبس من حبسي".
عن الإمام الباقر(ع) قال:" كان فيما ناجى الله عزوجل به موسى عليه السلام قال: يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو برد جميل ، إنه يأتيك من ليس بإنس ولاجان ، ملائكة من ملائكة الرحمن يبلونك فيما خولتك ويسألونك فيما نولتك ، فانظر كيف أنت صانع يا ابن عمران ".
عن أبي عبد الله( عليه السلام) قال:" إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ، ومن تكبر وضعاه ".
قال رسول الله(ص):" إن أول من لبى الملائكة . قال الله:" إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك" ؟ قال: فرادوه , فأعرض عنهم فطافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك لبيك اعتذارا إليك ، لبيك نستغفرك ونتوب إليك".
قال رسول الله( صلى الله عليه وآله): إني أرى مالا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا. والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله".
قال رسول الله(ص):" إن الله ينهاكم عن التعري ، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات: الغائط ، والجنابة ، والغسل".
قال رسول الله(ص) وآله لجبرئيل:" ما أحسن ما أثنى عليك ربك " ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " ! فما كانت قوتك ؟ وما كانت أمانتك ؟ فقال: أما قوتي ، بعثت إلى مدائن لوط فهي أربع مدائن ، في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري ، فحملتهم من الارض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهن فقلبتهن..".
عن أبي عبد الله(ع) قال:" كان بينا رسول الله جالسا وعنده جبرئيل(ع) إذ حانت من جبرئيل نظرة قبل السماء فانتقع لونه حتى صار كأنه كركم ، ثم لاذ برسول الله(ص) فنظر رسول الله إلى حيث جبرئيل فإذا شئ قد ملأ بين الخافقين مقبلا حتى كان كقاب من الارض ، ثم قال: يا محمد إني رسول الله إليك أخيرك: أن تكون ملكا رسولا أحب إليك أو أن تكون عبدا رسولا ، فالتفت رسول الله(ص) إلى جبرئيل وقد رجع إليه لونه فقال جبرئيل: بل كن عبدا رسولا ، فقال رسول الله: بل أكون عبدا رسولا ، فرفع الملك رجله اليمنى فوضعها في كبد السماء الدينا ، ثم رفع الاخرى فوضعها في الثانية ، ثم رفع اليمنى فوضعها في الثالثة ، ثم هكذا حتى انتهى إلى السماء السابعة ، بعد كل سماء خطوة ، وكلما ارتفع صغر حتى صار آخر ذلك مثل الصر، فالتفت رسول الله(ص) إلى جبرئيل(ع) فقال: قد رأيتك ذعرا ، وما رأيت شيئا كان أذعر لي من تغير لونك ! فقال: يا نبي الله لا تلمني ، أتدري من هذا ؟ قال: لا. قال: هذا إسرافيل حاجب الرب ، ولم ينزل من مكانه منذ خلق الله السماوات والارض، ولما رأيته منحطا ظننت أنه جاء بقيام الساعة ، فكان الذي رأيت من تغير لوني لذلك ، فلما رأيت ما اصطفاك الله به رجع إلي لوني ونفسي أما رأيته كلما ارتفع صغر، إنه ليس شي يدنو من الرب إلا صغر لعظمته ، إن هذا حاجب الرب وأقرب خلق الله منه ، واللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء ، فإذا تكلم الرب تبارك وتعالى بالوحي ضرب اللوح جبينه فنظر فيه ، ثم ألقاه إلينا فنسعى به في السماوات والارض ، إنه لأدنى خلق الرحمن منه ، وبيني وبينه تسعون حجابا من نور تقطع دونها الابصار ما لا يعد ولا يوصف ، وإني لاقرب الخلق منه ، وبيني وبينه مسيرة ألف عام".
عن الصادق(عليه السلام):" خلق الله الملائكة مختلفة ، وقد رأى رسول الله(ص) جبرئيل وله ستمائة جناح على ساقه الدر مثل القطر على البقل ، قد ملأ ما بين السماء والارض . وقال: إذا أمر الله ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا صارت رجله اليمنى في السماء السابعة ، والاخرى في الارض السابعة. وقال: إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينيه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطير. وقال: إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، وإنما يعيشون بنسيم العرش ، وإن لله ملائكة ركعا إلى يوم القيامة ، وإن لله ملائكة سجدا إلى يوم القيامة، ثم قال أبو عبد الله(ع): قال رسول الله(ص): ما من شئ خلقه الله أكثر من الملائكة ، و إنه ليهبط في كل يوم وفي كل ليلة سبعون ألف ملك ، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ، ثم يأتون رسول الله(ص) ثم يأتون أمير المؤمنين عليه السلام فيسلمون عليه ، ثم يأتون الحسين فيقيمون عنده ، فإذا كان السحر وضع لهم معراج إلى السماء ، ثم لا يعودون أبدا ".
قال الفخر الرازي:" إعلم أن الملائكة في الكثرة أضعاف خلق الله من أصناف العالم ، فقد روي: أن بني آدم عشر الجن والجن وبني آدم عشر حيوانات البحور. وكلهم عشر ملائكة الارض الموكلين فيها ، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية ، وعلى هذا الترتيب . ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة سرادق من سرادق العرش التي عددها ستمائة ألف سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبل بالسماوات والارضين وما فيهما وما بينهما فإنه يكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا ، وما موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد أو قائم ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، ثم هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر لا يعرف عددهم إلا الله , ثم هؤلاء مع ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل والملائكة الذين هم جنود جبرئيل عليه السلام قليل . سبحانه ما أعظم شأنه فما يعلم جنود ربك إلا هو . ثم قال الرازي أيضا: رأيت في بعض كتب التذكير أنه حين عرج بالنبي صلى الله عليه وآله إلى السماء رأى الملائكة في موضع بمنزلة سوق يمشي بعضهم تجاه بعض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إلى أين يذهبون ؟ قال جبرئيل: لا أدرى إلا اني أراهم منذ خلقت ولا أرى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك ، ثم قال جبرئيل لواحد منهم: منذ كم خلقت ؟ قال: لا أدري غير أن الله يخلق كوكبا في كل أربعمائة ألف سنة ، فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خلقت أربعمائة ألف كوكب، فسبحانه من آله ما أعظم قدرته وأجل سلطانه ".

ليست هناك تعليقات: